الجنيد... طاووس العلماء وسيّد الطائفة العاشقة
لم يمر الجنيد مروراً عابراً في طريق التصوف الإسلامي، بل ترك علامة على حياته ووجوده، حملها تلاميذه الذين يُعرفون بـ{الجنيدية}، وحواها أسلوبه الذي جعل ابن تيمية يصفه بأنه {واحد من أهم المتصوفين المعتدلين}، وضمتها أضابير الكتب الكثيرة التي تسطرت صفحاتها بسير الزاهدين، ومنهم الشيخ الجنيد، الذي كان يقول دوماً: {الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد}. والجنيد، كما قيل عنه، كان {شيخ وقته، ونسيج وحده}.
إنه أبو القاسم الجنيد بن محمد الخراز القواريري، من أعلام التصوف وربما لدى جمهرة من المتصوفين، هو رائد حركة التصوف برمتها. يعود مسقط رأسه إلى نهاوند في همدان(مدينة آذرية)، أما مولده ومنشأه فكانا في بغداد. صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري، والحارث المحاسبي. درس الجنيد الفقه على أبي ثور أحد تلامذة الإمام الشافعي، وكان يفتي في حلقته بحضرته، وهو ابن عشرين سنة. والجنيد هو ابن أخت القطب الصوفي المشهور السري السقطي.
تعلم الجنيد وتذوّق التصوّف من خاله، فها هو يقول: {كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: {يا غلام، ما الشكر{ فقلت: {الشكر ألا تعصي الله بنعمه}. فقال لي: {أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!{ قال الجنيد: {فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السري}.
وقال أيضاً: قال لي خالي سري السقطي: تكلم على الناس. وكان في قلبي حشمة من ذلك، فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام، رسول الله ـ وكانت ليلة جمعة ـ فقال لي: {تكلم على الناس!}. فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: {لم تصدقنا حتى قيل لك!}. فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف عليّ غلام نصراني متنكر وقال: {أيها الشيخ! ما معنى قوله : اتقوا فراسة المؤمن. فإنه ينظر بنور الله فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: {أسلم! فقد حان وقت إسلامك، {فأسلم}.
تصوّف لا يخالف الشرع
حجّ الجنيد ثلاثين مرة، تقرباً إلى الله، وكانت له في الحج أحوال العاشقين، لكنه لم يخرج عن حدود ما يفرضه الشرع في أداء تلك الفريضة، فالجنيد كان يؤمن بالجمع بين الحقيقة والشريعة، ولا يرى أي فصل بينهما، بل إنه اشترط على نور الحقيقة أن يكون موصولاً بنور الشرع الإلهي.
وكان الجنيد يقول لمريديه دوماً: {من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا ( قاصداً التصوف) مقيد بالكتاب والسنة}. وكان يقول أيضاً: {كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته، ولزم طريقه، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه}.
ولم يكن الجنيد يستنكف أبداً أن يظهر تواضعه وزهده بين من عرفوا حسبه ونسبه، بل إنه حرص على كسر الكبر في نفسه، وتطويعها لتخضع للخالق العظيم. وقد أبدى أحد من حوله ذات يوم عجبه من الجنيد حين رآه يأخذ في يده سبحة، على رغم نسبه، فقال لمن تعجب منه: {طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه}. إذ كان يعتبر السبحة أحد طرق الوصول إلى الوجد.
وقارن الجنيد بين حالة الحضور التي طالبنا بها الأنبياء والمشاهدة التي يقول بها الأولياء، وكان يفضّل الصحو على حالة السكر لدى المتصوفة. أما في علم الكلام فهو يسلم بأن معرفة الله إنما تكون عن طريق النظر.
الفناء بطريقة مختلفة
من أهم القضايا التي عني بها الجنيد {الفناء}، لكن رؤيته هنا تختلف عن تلك التي نجدها لدى الحلاج والبسطامي. فالجنيد لم يكن يذهب إلى تبني الحلول والاتحاد في قوله بالفناء، إنما كان حريصاً على أن يبقى الصوفي واعياً صاحياً مستيقظاً، ويرفض الشطح، ويقصر الفناء على توحيد إرادة العبد مع إرادة الخالق. ولهذا كان ابن تيمية، المعروف بصرامته في الالتزام بقواعد الشرع الفقهية، يستشهد أحياناً بأقوال الجنيد عن الفناء في معرض رده على من يؤمنون بالحلول والاتحاد.
والفناء الذي كان يتحدث عنه الجنيد ويتبناه هو نهاية التوحيد الحقيقي، فعندما يشعر العبد بفناء إرادته وانقضائها أمام إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته، يصبح العبد شبحاً بين يدي الخالق العظيم، خاضعاً لقدرته، مستسلماً لحكمه، ممتثلاً لتدبيره. وهنا يذهب حسه عن محسوسه، وقد عرف المتصوفة هذا النوع من الفناء في ما بعد بـ{الفناء عن السوي{ أو {الفناء عن الأغيار}. وهو مسلك محمود لدى الفقهاء ودارسي الشرع، على حد سواء.
وهنا يقول الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه {من قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة{ إن فناء من هذا القبيل يدل على أن {صاحبه لم ير في فنائه إلا إرادة الله وقضائه ومشيئته الكونية. أما إرادته الدينية وقضاؤه الديني، ومشيئته الدينية، فقد غابت عنه، حال فنائه. ومعلوم أننا لم نطالب بالوقوف على حقائق هذه الصفات الكونية، ولا العمل بمقتضاها، ولا العلم بها، لأنها أمر غيبي قد استأثر الله بعلمها وحجبه عن أصفيائه ورسله، وقد طلب الشرع منا أن نؤمن بها فقط، دون العمل بمقتضاها. أما الإرادة الدينية والقضاء الديني، فإن الله تعالى قد أمرنا أن نتعبد بهما، ونعمل بمقتضاهما، ويجب علينا أيضاً العلم بهما، ولذلك فإن الرسل لم يأمرونا بالقضاء الكوني، وإنما أمرونا بتنفيذ ما قضاه الله ديناً، وما أراده شرعاً، وهذا ما قد جاءت به الأوامر والنواهي التشريعية، وفصلته السنة}.
وما سبق يضع يده على نقطة فاصلة في مسار التصوف كله ومصيره، فبعض المتصوفة نقل مجال اهتمامه من النطاق المقدور عليه، والذي بالإمكان التفكير والاجتهاد فيه، والقطع فيه برأي أو دليل، إلى ما لا يمكن للإنسان مهما حاول أن يصل فيه إلى شيء ذي بال، إلا إذا أراد الله. ولهذا كثر كلام المتصوفة عن الكشف والإلهام والحدس والمعرفة اللدنية، ليحدثوا الناس عما لا يمكن لهم أن يدركوا جوهره خالصاً، ولا تفاصيله كاملة، والتي لا يمكن أن يتهادى إلا لعبد نوراني، يكون الله عينه التي يرى بها، وأذنه التي يسمع بها، ويده التي يبطش بها، كما جاء في الحديث القدسي.
ولم يكن الجنيد من بين الذين يغالون في رؤية الإنسان بصورة أكبر مما هو عليها كمخلوق ضعيف، يستمد أي قوة فيه من خالقه. وقد اعتمد الجنيد في مذهبه على دقائق التوحيد وأسراره، حتى كان الناس ينقولون عنه عبارته الشهيرة: {التوحيد إفراد القديم عن الحدث}، وهو تعريف يرسم لنا معالم مذهب الرجل، فليس توحيده حلولاً، ولا اتحاداً، ولكنه تمييز واضح بين الخالق والمخلوق. وقد نص الجنيد في كثير من أقواله على أن الخالق مباين لخلقه، عليّ عليهم غير حال في شيء من مخلوقاته. وكان مذهبه في ذلك يمثل تصوف الفقهاء في عصره، لأنه يعتمد في منهجه ـ كما يرى ذلك كثيرون ومنهم الدكتور الجليند ـ على الكتاب والسنة.
فعل يطابق القول
على هذه الأرضية تأتي رؤية الجنيد للتصوف، أو تتهادى تجربته الروحية، وكذلك ممارساته العملية، التي تدل عليها شواهد عدة، منها تلك الواقعة التي رواها عبد الله المكانسي، قائلاً: كنت عند الجنيد، فأتت امرأة، وقالت: ادع الله تعالى، فإن ابناً لي ضاع، فقال: اذهبي واصبري. فمضت ثم عادت، ففعلت مثل ذلك مرات، والجنيد لا يكثر لها في القول عما قال. فقالت له: عيل صبري. ولم يبق لي طاقة، فادع لي. فقال الجنيد: إن كان كما قلت، فاذهبي فقد رجع ابنك. ففعلت ثم عادت تشكر له، فقيل للجنيد: بم عرفت ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء}.
اهتم الجنيد بتربية المريد، وكان يرى أن {المريد الصادق غني عن علم العلماء، فأما الفرق بين المريد والمراد، فكل مريد على الحقيقة مراد، إذ لو لم يكن مراد الله عز وجل بأن يريده، لم يكن مريداً. إذ لا يكون إلا ما أراده الله تعالى. وكل مراد مريد، لأنه إذا أراده الحق سبحانه بالخصوصية وفقه}. وقد سئل الجنيد عن المريد والمراد فقال: {المريد تتولاه سياسة العلم، والمراد تتولاه رعاية الحق سبحانه، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق الطائر السائر}.
وكان الجنيد يهتم بصفات محددة في تلاميذه منها الصدق، الذي يقول عنه: {حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك منها إلا الكذب}. والمريد الصادق لديه هو الذي {لا يسأل ولا يعارض وإن عورض سكت}. ومنها الإخلاص الذي يراه {سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله}. ومنها كذلك الحياء وهو في نظره: {حال يولد من بين رؤية الآلاء، ورؤية التقصير}. وثمة كذلك المراقبة، والتي يقول بشأنها: {من تحقق من المراقبة خاف على فوت حظه من ربه عز وجل، وليس غيره}. وتوجد صفة أخرى أساسية، هي قاسم مشترك بين كبار المتصوفة، وهي المحبة: التي يعرّفها الجنيد بأنها: {دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب ... وهي ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك، وروحك، ومالك، ثم موافقتك له سراً وجهراً، ثم عملك بتقصيرك في حبه}، والمحب لديه هو {عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظراً إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار عن أستار عيبه، فإن تكلم بالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله}.
كذلك على المريد، في نظر الجنيد، أن يشعر دوماً بالافتقار إلى الله. وقد سئل الجنيد عن الافتقار إلى الله تعالى أهو أتم أم الاستغناء بالله؟ فقال: إذا صح الافتقار إلى الله عز وجل فقد صح الاستغناء بالله. وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغنى به، فلا يقال أيهما الافتقار أم الغنى، لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
ويجمل الجنيد تصوّره عن المتصوفة بقوله: {تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع: عند الأكل لأنهم يأكلون عن فاقة. وعند المذاكرة، لأنهم يتحاورون في مقامات الصديقين وأحوال النبيين. وعند السماع، لأنهم يسمعون بوجد، ويشهدون حقا}.
أما مجالس الذكر فإن أشرفها وأعلاها في نظر الجنيد هي {الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسّم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر بحسن الظن لله عز وجل}.
ويفرق الجنيد بين هواجس النفس ووساوس الشيطان، فيقول: {النفس إذا طالبتك بشيء ألّحت فلا تزال تعاودك ولو بعد حين، حتى تصل إلى مرادها، ويحصل مقصودها، ما لم تغلبها بصدق المجاهدة. وأما الشيطان إذا دعاك إلى زلة فخالفته، فإنه ينتقل بوسوسته إلى زلة أخرى، لأن جميع المخالفات عنده سواء، وإنما يريد أن يكون داعياً أبداً إلى زلة ما، ولا غرض له في تخصيص زلة دون زلة}.
عظات لما بعد الموت
تعددت أقوال الجنيد ونصائحه لمريديه ليعدوا العدة لما بعدالرحيل الأبدي عن الدنيا، فها هو يقول: {اتق الله، وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهدًا فيها وحذرًا منها فإن الصالحين كانوا كذلك}.
ويقول أيضاً: {اعلم يا ابن آدم أنّ طلب الآخرة أمر عظيم لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، وأخلِص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنّ أنجى الناسِ من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء}.
وعن لحظة موت الجنيد يقول أبو محمد الجريري: {كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: {أرفق بنفسك!{ فقال: {ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوى صحيفتي}. وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: {ما هذا يا أبا القاسم!}، قال: {هذه نعم!. الله أكبر}. فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: {لو اضطجعت!}، قال: {يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر}. فلم يزل ذلك حاله حتى مات}. وقال ابن عطاء: {دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم رد بعد ساعة، وقال: {اعذرني! فإني كنت في وردي}، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات}.
توفي الجنيد في بغداد سنة 297 هـ، وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، ودفن بتربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، لدى خاله سري السقطي. وصلى عليه جمع غفير من الناس قدِّر عددهم بالآلاف.
وقبل موته ترك الجنيد عظة عظيمة حول الموت لا يمكن نسيانها، وقد حوتها نصيحته التي يقول فيها: {يا ابن آدم دينك دينك، نعوذ بالله من النار فإنها نار لا تنطفىء، وعذاب لا ينفد أبدًا، ونفس لا تموت، يا ابنَ آدم إنك موقوف بين يدي الله ربك ومرتهن لعملك فخذ مم في يديكَ لما بين يديك، عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسؤول ولا تجد جواباً، إنك لا تزال بخير ما دمت واعظاً لنفسك محاسباً لها وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك}.
ويقول أيضا: {إنما اليوم إن عقلتَ ضيفٌ نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقِراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه شهد عليك فلا تبع اليوم ولا تعد له بغير ثمنه. واحذر الحسرة عند نزول السكرة فإن الموت، آتٍ وقد مات قبلك من مات}.