عبد الله بن المبارك... حلية العلماء وسيّد الزاهدين
أجلُّ أهل زمنه وأعلاهم تحلياً بالخصال الحميدة. حرص على أن يقطف كل ما في وسعه من مختلف بساتين المعرفة. لم يجنح به زهده إلى ما يخالف شرع ربه. تجاذبه الجميع، فضمه السلفيون إلى طليعة {أهل السنة والجماعة} لفقهه وروايته الحديث النبوي، وجذبه المتصوفة إلى ساحتهم متمثلين بزهده وورعه وكراماته، فعّدوه أحد رعيلهم الأول. أما هو فقد قدم نموذجاً للمتصوف العامل، الذي لا تكفيه الحقيقة عن الشريعة، ولا تمنعه الشريعة من الحقيقة، ولا يسقطه أحواله في البدع.
هو عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي مولى بني حنظلة. تنتسب أمه إلى خوارزم، وأبوه إلى تركيا. ولد سنة 118 هـ بمرو في خراسان، وحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث، وألم باللغة العربية، بلاغة ونحواً وصرفاً. ولما بلغ الثالثة والعشرين رحل إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، واستقر فيها، وغادرها مرات عدة إلى الحجاز.
في عيون معاصريه
تداول جماعة من معاصريه أمره وصفاته وخصاله الحميدة، فقالوا إنه: {جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع والإنصاف وقيام الليل والعباة والحج والغزوة والفروسية والشجاعة والشدة في بدنه وترك الكلام في ما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه} ولهذا قال عنه ابن حبان: {كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمان في الأرض كلها}، وقال عنه إسماعيل بن عباس: {ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه} وقال عطاء بن مسلم: {ما رأيت مثله، ولا ترى مثله} وقال عنه الجليلي في الإرشاد: {له من الكرامات ما لا يحصى.. إنه من الأبدال}
وقال الخطيب البغدادي: {كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد} وقال عبد الرحمن بن المهدي: {ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري، ولا أحسن عقلاً من مالك ، ولا أقشف من شعبة، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك} وقال الأسود بن سالم : {كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام}
ومدحه الشاعر عمار بن الحسن فقال:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة
فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأخيار في كل بلدة
فهم أنجم فيها وأنت هلالهـا
واتفقت جميع المصادر على أنه كان لا يكف عن طلب العلم، وأنه كان نادر المثال في هذا السبيل، إذ رحل إلى جميع الأقطار التي كان مشهوداً لها بالنشاط العلمي في عصره. وقد أتيح له أن يأخذ العلم عن بعض أعلامه مثل الإمام مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان، وهنا قال عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم: {كان ابن المبارك ربع الدنيا بالرحلة في طلب الحديث، لم يدع اليمن ولا مصر ولا الشام ولا الجزيرة والبصرة ولا الكوفة} وقد شهد له أحمد بن حنبل بذلك أيضاً، وأثنى عليه، إذ قال: {لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه}
وبلغ ولع ابن المبارك بتدوين العلم مبلغاً جعل الناس يعجبون منه، فقد سأله أحدهم مرة: {كم تكتب؟}، فأجاب: {لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد!} وعابه قومه على كثرة طلبه للحديث فقالوا: {إلى متى تسمع؟}، فقال: {إلى الممات}
زهده وورعه
قد كان الزهد القيمة الأسمى في مسلك ابن المبارك واعتقاده، فقد آمن بأن الزهاد هم الملوك الحقيقيون، وأن {سلطان الزهد أعظم من سلطان الرعية، لأن سلطان الرعية لا يجمع الناس إلا بالعصا، والزاهد ينفر من الناس فيتبعوه} والزهد عنده يجب أن يكون عميقاً ودقيقاً، متجسداً في الأعمال لا في الأقوال، فقد كان ينصح من يتبعه: {دعواك الزهد لنفسك يخرجك من الزهد}، وكان يردد دوماً: {لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بستمائة ألف} وتتجلى دقة حساب النفس على كل صغيرة، وإمالتها على كل ما يفضي إلى الزهد والورع، في قوله أيضاً: {لو أن رجلاً اتقى مائة شيء، ولم يتورع عن شي واحد، لم يكن ورعاً، ومن كان فيه خلة من الجهل، كان من الجاهلين} وكان يقول كذلك: {كيف يدعي رجل أنه أكثر علماً، وهو أقل خوفاً وزهداً}
وشهد له الناس بهذه العناية وهذا الحرص الشديد على تجنب أي قدر من حرام حتى ولو كان تافهاً أو صغيراً. وأوضح الحسن: {رأيت في منزل ابن المبارك حماماً طائراً، فقال لي: كنا ننتفع بفراخ هذه الحمام، فليس ننتفع بها اليوم. فسألته: ولم ذلك؟ فقال: اختلطت بها حمام غيرها، فتزاوجت بها، فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها}
وكان ابن المبارك على صلاحه وورعه متواضعاً إلى أقصى حد، وإلى درجة أنه كان ينكر على نفسه الورع والتقوى، بل كان يقول: {أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين، وأنا أشر منهم}، ثم ينشد:
الصمت أزين بالفتى
من منطق في غير حينه
والصدق أجمل بالفتى
في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره
سمة تلوح على جبينه
فمن الذي يخفي عليك
إذا نظرت إلى قرينه
رب امرئ متيقن
غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه
فباع دنياه بدينه
أحد مظاهر الزهد عند ابن المبارك عدم التكالب على الدنيا التي كان يقول عنها: {الدنيا سجن المؤمن، وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة} وكان كل ما يطلبه في حياته هو ما يقيم أوده، يوماً بيوم، فلديه {ليس من الدنيا إلا قوت اليوم فقط {. كذلك يتجلى زهده في الصمت والعزلة، فقد سئل يوماً عن قول لقمان لابنه: {إن كان الكلام من فضة فإن الصمت ذهب}، فقال: {معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب} وكان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فسأله أحدهم: {ألا تستوحش؟}، فأجاب: {كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟} كذلك كان يعتزل مجالس المنكر واغتياب الناس فقيل له: {إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا؟ {، فردّ: {أذهب مع الصحابة والتابعين} قيل له: {ومن أين الصحابة والتابعين؟}، فأجاب: {أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، فما أصنع معكم وأنتم تغتابون الناس}
وكان يقول: {أهل الدينا خرجوا منها قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها} فسأله الناس: {وما أطيب ما فيها}، فأجاب: {المعرفة بالله عز وجل}
وكان من حوله يلاحظون أنه كلما ازداد علمًا، ازداد خوفًا من الله وزهدًا في الدنيا، وكان إذا قرأ أحد كتب الوعظ يذكره بالآخرة وبالجنة والنار، وبالوقوف بين يدي الله للحساب، بكى بكاء شديدًا، واقشعر جسمه، وارتعدت فرائصه، وسرى في نفسه حزن، ولا يكاد يتكلم أحد معه.
ولم يكن زهد ابن المبارك وتصوفه يجافي مذهب {أهل السنة والجماعة}، بل على النقيض من ذلك كانت له مواقف صارمة من أهل البدع والأهواء، وهو موقف المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة المسلمين، لذلك نجده يوصي أحد تلامذته فيقول: {ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة} وثمة مواقف عدة تدل على هذا، إذ قيل إن رجلاً سأله: {قد خفت الله تعالى من كثرة ما أدعو على الجهمية (وهم أهل إحدى الفرق)}، فأجابه: {لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء} وكان ابن مبارك يؤمن إيماناً جازماً بضرورة تطابق الفعل مع القول، فها هو يقول: {الإيمان قول وعمل} كذلك كان يتبرأ من عقائد الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية والفلاسفة، ويبين فساد مقالاتهم ومذاهبهم، وطالما صرّح ببطلان هذه التصورات. وعلى النقيض من ذلك لم يغفل منهج أهل السنة والجماعة في الإيمان بالله بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة والتسليم لهما، وعدم تقديم العقل عليهما أو تحكيمه فيهما، وفي احترام الصحابة والترضي عنهم وعدم الخوض في ما جرى بينهم، وكان يحذر من الرواية عمن يسبهم رضى الله عنهم. وفي هذا الشأن روى الإمام مسلم عن علي بن شقيق: {سمعت ابن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف}
مع المرأة القرآنية
إحدى أشهر القصص المرتبطة بعبد الله بن مبارك هي التي حاور فيها ما وصفت بـ'المرأة القرآنية} فقد نقل الرواة عنه قوله: {خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر المصطفى (عليه الصلاة والسلام) فيما أنا في بعض الطريق، فإذا بسواد عليها، كان لعجوز عليها درع وخمار من صوف فقلت لها: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقالت: سلام قولاً من رب رحيم. فقلت لها: يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان؟ فقالت: من يضلل الله فلا هادي له. فعلمت أنها ضالة عن الطريق فقلت لها: أين تريدين؟ فقالت: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فعلمت أنها قد قضت حجها وهي تريد بيت المقدس فقلت لها: كم لك في هذا الموضع؟ فقالت: ثلاث ليال سوياً. فقلت لها: ما أرى معك طعاماً تأكلين منه؟ فقالت: هو يطعمني ويسقيني. فقلت: فبأي شيء تتوضئين؟ فقالت: فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً. فقلت لها: إن معي طعاماً فهل لك في الأكل منه فقالت: ثم أتموا الصيام إلى الليل. فقلت لها: ليس هذا شهر صيام رمضان. فقالت: ومن تطوّع خيراً فإن الله شاكر عليم. فقلت: قد أبيح لنا الإفطار في السفر، فقالت: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. فقلت: لم لا تكلميني مثل ما أكلمك؟ فقالت: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. فقلت: فمن أين الناس أنت؟ فقالت: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً. فقلت: قد أخطأت فاجعليني في حل، فقالت: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم. فقلت: فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركي القافلة؟ فقالت: وما تفعلوا من خير يعلمه الله. قال: فأنختها، فقالت: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. فغضضت بصري عنها، لكن لما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها، فقالت: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، فقلت لها اصبري حتى أعقلها، فقالت: ففهمناها سليمان. فعقلت الناقة وقلت لها: اركبي، فلما ركبت قالت: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. قال: فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح فقالت: أقصد في مشيك وأغضض من صوتك. فجعلت أمشي رويداً رويداً وأترنم بالشعر، فقالت: فاقرؤوا ما تيسر من القرآن، فقلت لها: لقد أوتيت خيرا، فقالت: وما يذكر إلا أولو الألباب. فلما مشيت بها قلت لها ألك زوج؟ فقالت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوؤكم. فسكت ولم أكلمها حتى أدركت بها القافلة فقلت لها: هذه القافلة فما لك فيها؟ فقالت: المال والبنون زينة الحياة الدنيا.
فعلمت أن لها أولاداً، فقلت: وما شأنهم في الحج؟ فقالت: وعلامات وبالنجم هم يهتدون. فعلمت أنهم أدلاء الركاب فقصدت بها الخيام وقلت هذه الخيام فما لك فيها؟ فقالت: واتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، يا يحيى خذ الكتاب بقوة. فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر منهم الجلوس قالت: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف. فمضى أحدهم فاشترى طعاماً فقدمه بين يدي فقالت: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. قلت: الآن طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها، فقالوا: هذه أمنا لها منذ 40 سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن، فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المجاهد المرابط
كان ابن المبارك مجاهداً في سبيل الله بنفسه وماله ومعرفته، إذ رابط في الثغور طويلاً، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وما نزل بلداً في رحلته لطلب العلم ثم سمع منادي الجهاد إلا تجهز وخرج.وطالما دعا الناس إلى نصرة دين الله، حتى تصبح كلمة الله هي العليا في الأرض. وكان يعيب على النساك والزهاد قعودهم عن الجهاد، وسوء فهمهم لمعنى العبادة، فقدم بذلك نموذجاً يُحتذى في {التصوف العملي} وها هو يقول للمتصوفة القاعدين:
أيها الناسك الذي لبس الصوف
وأضحى يُعد في العباد
الزم الثغر والتعبد فيه
ليس بغداد مسكن الزهاد
إن بغداد للملوك مَحَل
مناخ للقارئ الصياد.
وذات مرة نظم ابن المبارك قصيدة وأودعها رسالة إلى الفضيل بن عياض بينما كان يرابط في ثغر من الثغور، قال له فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
لقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
المحطة الأخيرة
في أحد أيام شهر رمضان سنة 181هـ تُوفي عبد الله بن المبارك، وهو راجع من الجهاد، وكان عمره 63 عامًا. ويقال: إن هارون الرشيد لما بلغه نبأ موته، قال: {مات اليوم سيد العلماء}
ويقال إن رجلاً دخل على الرشيد وروى له أنه كان قادماً من هيت بالعراق، فوجد الناس قد اجتمعوا على جنازة رجل، فسألهم عن المتوفى فقالوا له: عبد الله بن المبارك الخراساني. فقال الرشيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم نادى وزيره الفضل ابن الربيع: أئذن في الناس من يعزينا في عبد الله بن المبارك فأظهر الفضل تعجباً، فقال له: ويحك، إن عبد الله هو الذي يقول:
الله يدفع بالسلطان معضلة
عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الإئمة لم يأمن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
من سمع هذا القول من مثل ابن المبارك مع فضله وزهده وعظمه في صدور العامة، ولا يعرف حقنا.
أما الفضل بن عياض فقال لما بلغه نبأ موت ابن المبارك: {رحمه الله، إنه ما خلف بعده مثله} وبعد موته روى زكريا بن عدي قائلاً: {رأيت ابن المبارك في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي برحلتي في الحديث}