/سيرته
كان من أحسن الناس سيرة؛ في نفسه ورعيته؛
فكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم؛ وكان سريع العطاء جزيله؛ يحب الفقهاء
والشعراء ويعطيهم، لا يضيع لديه بر ولا معروف؛ وكان يصلى في كل يوم مائةَ ركعة
تطوعا إلى أن فارق الدنيا؛ إلاّ أن تعرض له علة، وكان يحج عاما ويغزو عاما في سبيل
الله وإذا حج أحج معه مائةً من الفقهاء وأبنائهم، وإذالم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة
السابغة والكسوة التامة؛ حتى قال فيه القائل
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة* *
فلما ولي هارونُ أشرق نورها
هارون الرشيد غازيا ومجاهدًا
كانت
شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبه وجهاده مع الروم، فلما ولي الخلافة
استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريبًا، حتى إنه اتخذ قلنسوة مكتوبًا
عليها: غاز وحاج
.
وقام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو
لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور،
وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية، وأطلق عليها العواصم، لتكون الخط الثاني
للثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب
الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه
المعتصم
وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأحاط كثيرًا منها بالقلاع والحصون
والأسوار والأبواب الحديدية، مثل: قلطية، وسميساط، ومرعش، وكان الروم قد هدموها
وأحرقوها فأعاد الرشيد بناءها، وأقام بها حامية كبيرة، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة
عرفت باسم “الهارونية” على الثغور.
وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي
نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط،
وأقام دارًا لصناعة السفن، وفكّر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وعاد
المسلمون إلى غزو سواحل بحر الشام ومصر، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم،
مثلما كان الحال من قبل، فأعادوا فتح “رودس” سنة (175هـ= 791م)، وأغاروا على أقريطش
“كريت” وقبرص سنة (190هـ= 806م).
واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد
المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت “إيريني” ملكة الروم صلحًا مع الرشيد،
مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها
إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون: “من نقفور
ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام
الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما
حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك”.
للحديث بقية تابع معنا[/url][/size][/b]