رابعاً: آيات الصوم من سورة المجادلة:
قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4].
أسباب النزول:
1- عن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها قالت: والله فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليّ يوماً فراجعته بشيءٍ فغضب فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني وامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه، قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ القرآن فتغشّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشّاه ثم سُرّي عنه، فقال لي: يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَ...} إلى قوله: {وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:1-4]([1]).
2- وقيل: نزلت في سلمة بن صخر الأنصاري، فعنه أنه قال: كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي، حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك، إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ تكشّف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري، فقال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، قال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، قال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، وها آنذا فامض فيّ حكم الله، فإني صابر لذلك. قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربَ صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: ((فصم شهرين)) قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فأطعم ستين مسكيناً)) قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك)). قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ، فدفعوها إليّ([2]).
المفردات:
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ}: أي فمن لم يجد منكم من ظاهر من امرأته رقبة يحرّرها: فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا([3]).
{مُتَتَابِعَيْنِ}: الشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر([4]).
{مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}: المراد بالتماس هنا: الجماع، وقيل: المراد الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة([5]).
{حُدُودُ ٱللَّهِ}: أي محارمه، فلا تنتهكوها([6]).
المعنى الإجمالي:
أخبر سبحانه وتعالى قبل هذه الآية الكريمة بأن على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، أي: يعزمون على وطئهن بعد الظهار منهن، فالواجب عليهم قبل الوطء تحرير رقبة ذكراً كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة، لكن مؤمنة لا كافرة، ثم يتدرج سبحانه في الحكم في هذه الآية بأن من لم يجد رقبة لانعدامها، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع لعلّةٍ قامت به فالواجب إطعام ستين مسكيناً يُعطي كل مسكين مداً من بُرٍ أو نصف صاعٍ من غير البُرّ كالشعير والتمر ونحوهما، كلّ ذلك من قبل أن يتماسا.
ثم يبيّن الله سبحانه أن ما تقدّم من أحكام الظهار إنما شرعها للمؤمنين ليؤمنوا بالله ورسوله، إذ إن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبةٌ ومتحتّمة، ومعصيتهما من الكفران، ثم يبيّن أيضاً أن هذه الأحكام ما هي إلا حدود لا يجوز للمسلم تجاوزها وتخطيها، وإلا نال من عذاب الله تعالى الشيء العظيم الموجع([7]).
الفوائـد:
1. بيان حكم الظهار وأنه محرّم، ومعصية لله تعالى([8]).
2. من ظاهر من امرأته فعليه عتق رقبة، فإن لم يستطع فعليه صيام شهرين متتابعين لا يقطعهما بفطر، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مدّ من بُرّ أو مُدين من غير البُر كالشعير والتمر([9])، وقيل: ما يُشبع من غير تحديد([10]).
3. الكفّارة هنا مرتّبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام([11]).
4. يجب إخراج الكفارة إذا كانت عتقاً أو صياماً قبل المسيس، كما قيده الله، بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها([12]).
* * *