جلال الدين الرومي... الشاعر الصوفيّ الذي أدهش الغرب
بدأ عالماً بفقه الحنفية ومختلف أنواع العلوم التي جادت بها قرائح المسلمين، ثم انتهى متصوفاً بعدما ترك الدنيا والتصنيف، ولجأ إلى الشعر يبث فيه فلسفته القائمة على وحدة الوجود، وصحة الأديان جميعاً، والداعية إلى المحبة والسلام. وقد أدى بيانه الفياض، والقيم العميقة الرحبة المتسامحة، التي تنطوي عليها فلسفته وتكمن في أبيات قصائده إلى أن صار الآن جسراً متيناً بين الشرق والغرب.
هو محمد بن محمد بن الحسين بن أحمد بن قاسم بن مسيب بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عرف نفسه بالبلخي، ولُقب بالقونوي نسبة إلى قونية التي سكنها وتوفي فيها. كذلك لُقب بالرومي نسبة إلى بلاد الروم. وكانت قونية، في وسط تركيا الراهنة، في عهده إحدى أعظم مدن الإسلام في الروم، فأصبح يُعرف بالبلخي القونوي الرومي.
ولد في فارس عام 604هـ 1207م لأسرة ينتهي نسبها، على الأرجح، إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتحظى بمصاهرة البيت الحاكم في خوارزم. أما أمه فكانت ابنة خوارزم شاه علاء الدين محمد.
وما إن بلغ الرومي الثالثة حتى انتقل مع أبيه إلى بغداد إثر خلافه مع الوالي محمد قطب الدين خوارزم شاه. وفي بغداد نزل أبوه في المدرسة المستنصرية، لكنه لم يستقر فيها طويلاً؛ إذ قام برحلة واسعة زار خلالها دمشق ومكة وملسطية وأرزبخان ولارند. وفي دمشق التقى الرومي أستاذه الأول برهان الدين، ودرس مع نخبة من أعظم العقول الفقهية والعلمية آنذاك، ما مكنه في النهاية من اكتساب علم متين في الفقه والتصوف. ولما أدرك سيد برهان أنه أكمل مسؤولياته تجاه تلميذه أراد تمضية البقية من عمره في عزلة، فانقطع عنه تلميذه.
استقر والد الرومي آخر الأمر في قونية عام 632هـ، مشمولاً بحماية الأمير السلجوقي علاء الدين قبقباذ ورعايته. وقد اختير الأب للتدريس في أربع مدارس في قونية حتى وافته المنية عام 628هـ، فخلفه ابنه جلال الدين في المهنة، لكن الابن فاق الأب في الإلمام بالفقه وغيره من العلوم الإسلامية.
يروي البعض أن الرومي حين توجه بصحبة والده إلى مكة لأداء فريضة الحج، التقى في نيسابور الشاعر الصوفي المشهور فريد الدين العطار، الذي أهداه كتابه «أسرار نامة»، وأوصى العطار الوالد بابنه قائلاً له: «اعتني بهذا الولد، فإنه عما قريب سينفث في هذا العالم نفساً مشتعلاً». وظل هذا اللقاء العابر محفوراً في عقل الرومي وقلبه، وكان يردد دوماً: «لقد اجتاز العطار مدن الحب السبع بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممر ضيق». ثم عبر عن هذه اللحظة المهمة في حياته بشعر أنشد فيه: «وفجأة أشرق في صدري نجم لامع،واختفت في ضوء ذلك النجم كل شموس السماء».
لكن نقطة التحول في حياة الرومي كانت حين التقى الصوفي الأمي المشهور شمس الدين التبريزي، الملقب بشمس المغربي، الذي ترك فيه بصمات قوية انطبعت على عقله وذوقه وبيانه. وتعلق الرومي بأستاذه الجديد بشدة، وصار للتبريزي سلطاناً قوياً عليه، فودع حياة التدريس، وانقطع للعبادة، ونظم الشعر، وأسس طريقة صوفية لا تزال تحيا بين ظهرانينا وهي «المولوية»، التي عنيت في تربية مريديها بالرياضة الروحية، وسماع الموسيقى، على الخلاف من الطرق الصوفية الأخرى.
بعد عامين من هذه العلاقة المكثفة ارتحل شمس تبريز عن الدنيا الفانية ولقي ربه، وشعر الرومي بمعاناة شديدة عبر عنها حركياً في شكل الرقص الدائري الذي أصبح علامة على طريقته الصوفية. كان يدور ويدور حتى يصل الى حالة من الذهول ويبكي وينتحب مبتغياً وجه ربه. ثم بدأ في نظم شعر يعبر فيه عن آلام الفراق والانفصال عن أستاذه ومعلمه. وأخذ يكتب عن الحب والفراق واللوعة والتطلع للقاء الحبيب. وكان تأثير شمس تبريز على الرومي عظيماً وعميقاً حتى أنه وقّع الشعر الذي نظمه بعد وفاة شمس باسم الأخير وليس باسمه.
في مطلع الخمسينيات من عمره راح الرومي يملي على تلميذه حسام الدين ديوانه الشعري الصوفي {المثنوي}، أكبر ديوان صوفي في التاريخ الإنساني، ومؤلف من سبعة وعشرين ألف بيت، وينطوي على مناحي الشخصية الإنسانية كافة، وتفاصيل دقيقة في عالم الطبيعة والتاريخ والجغرافيا.
نظم الرومي ديوانه ليشكّل بيانًا وشرحًا لمعاني القرآن الكريم، ومقاصد الشريعة؛ ويكون ذلك هدفًا إلى تربية الشخصية الإسلامية وبنائها، وزادًا له في صراعه مع قوى الشر والجبروت، وعونًا له على مقاومة شهوات النفس والتحكم في أهوائها. وكشف الديوان عن ثقافة صاحبه الموسوعية، التي عبر عنها بروح إنسانية سامية، استخدم فيها ببراعة فن الحكاية، وهي في حركتها وتطورها وحوارات شخصياتها لا تقل روعة عن بعض القصص المعاصرة، إذ تتميز بالثراء والتنوع في تساميها وعجزها ونفاقها وريائها، وحيرتها بين الأرض وما يربطها بها، وبين السماء وما يشدها إليها، ذلك كله في تدفق وانسياب غامر، وعرض مشوق، وأسلوب جذاب أخَّاذ، ولغة متميزة.
يبدأ الديوان بأبيات تحكي شوق الروح الإنسانية إلى خالقها، تحت غطاء رمزي، يتمثل في ناي يئن حنيناً إلى منبته، بقوله (مترجم عن الفارسية):
أنصت للناي كيف يقصّ حكايته
إنه يشكو آلام الفراق
إنني منذ قطعت من منبت الغاب
والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي
إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق
حتى أشرح له ألم الاشتياق
فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله
يظلّ يبحث عن زمان وصله.
علاوة على «المثنوي» نظم الرومي ديوان «شمس تبريز» الذي يشمل غزليات صوفية، والتزم فيه ببحور العروض، وهو يحوي 36023 بيتًا، إضافة إلى الرباعيات، وهي منظومة أحصاها العالم الإيراني المعاصر بديع الزمان فوزانفر فوجد أنها تبلغ 1659 رباعياً، أي 3318 بيتاً. وثمة «المجالس السبعة»، الذي يشتمل على سبع مواعظ دينية وخطب ألقاها الرومي أثناء اشتغاله بالتدريس. علاوة على مجموعة رسائله، وفيها تلك التي وجهها إلى شيخه شمس الدين تبريزي، وتصور العلاقة الروحية السامية التي ربطت بينهما.
بان في شعر الرومي أن الأخير مستقل عن المذاهب كافة، وهي مسألة يعكسها بجلاء قوله: «تعالَ وكلمني ولا يهم من أنت ولا إلى أي طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله».
قالت الشاعرة الكرواتية ومترجمة الرومي فيسنا كريمبو تيتش: «تعبر أشعار الرومي بجلاء وجمال عن حب الإنسان لله سبحانه وتعالى».
ومركزية قيمة الحب في تجربة الرومي، جعلته يتجاوز حدود المعتاد، ويقبل المشارب والأطياف كافة، ويقول بوحدة الحب والأديان، بل إن العاشق في نظره لا يكون صادقاً ما لم ينفتح أفقه على الخلق كله. وتعود فيوضات المحبة في شعر الرومي وفلسفته الإنسانية إلى الحب الجارف الذي كان يكتنف روحه، فالحب لديه لهيب محرقة، وفي بحر السماع ماء معين ترتوي منه الروح ما تريد وكيفما تشاء. فهو عندما يتحدث عن قيمة السماع والمجاهدة والإرادة في مكابدة النفس والوجود، كأنه يجسد فعل المحبة الشاملة. والقيم كافة التي دارت حولها تجربة جلال الدين الرومي الروحية، تصب في فلسفة الحب التي جعلها أساس الوجود الإنساني، وحول المرأة التي ينعكس فيها كل شيء.
عرّف الرومي الحب قائلاً: {يعني أن تميل بكلك إلى المحبوب، ثم تؤثره على نفسك وروحك ومالك ثم توافقه سراً وجهراً ثم تعترف بتقصيرك في حبه». وكان يعتقد أن الحب، هو «هتك الأستار وكشف الأسرار». وطاقة الحب لديه هي «النار المشتعلة في القلب والتي تحرق كل شيء عدا مراد المحبوب»، و«استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من محبوبك، فالحب يسقط شروط الأدب»، وهي كذلك «كالغصن، حين يغرس في القلب فيثمر على قدر العقل»، وكان يقول دوماً: «الحب أوله ختل وآخره قتل».
وأنشد الرومي شعراً خالداً في الحب الإلهي، إذ قال في قصيدته «شمس مغربي»:
ولقد شهدت جماله في ذاتي
لما صفت وتصقلت مرآتي
وتزينت بجماله وجلاله
وكماله ووصاله خلوات
أنواره قد أوقدت مصباحي
فتلألأت من ضوئه مشكاتي
كان الرومي مسلماً مؤمناً بتعاليم الإسلام السمحة، لكنه استطاع جذب أشخاص من ديانات وملل أخرى بسبب تفكيره المرن المتسامح. فطريقته شجعت التساهل اللامتناهي مع المعتقدات والأفكار كلها. كذلك كان يدعو إلى التعليل الإيجابي، الخير والإحسان وإدراك الأمور عن طريق المحبة. وبالنسبة إليه وإلى أتباعه، فإن الديانات كافة خيرة وحقيقية بمفاهيمها. لذلك كانوا يعاملون المسلمين والمسيحيين واليهود معاملة سواسية.
وكغيره من الصوفيين، آمن الرومي بالتوحيد مع حبه، أي الله. هذا الحب الذي يبتعد عن الإنسان، والإنسان في مهمة إيجاده والعودة إليه.
لم يكن الرومي منفصلاً عن قضايا عصره، فقد أبصر النور في ظل انتصار المغول الكاسح، الذي هرب والده نفسه أمامهم من بلخ (أفغانستان) إلى دمشق. وكانت نتيجة الهجوم المغولي تحويل حواضر الإسلام الزاهرة في إيران والعراق وآسيا الوسطى عموماً إلى كتل من اللهب وركام من التراب، وكان جنكيز خان يسأل الناس عن دينهم فيجيبونه: «ديننا الإسلام، ويقولون كذا وكذا...»، فيرد عليهم: «لا أرى أنكم تقيمون دينكم، أنا نقمة ربكم عليكم». أما السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد فقد تمكّن المغول من القبض على نسائه ووالدته وأصبحن خادمات في بيوت أمراء المغول أنفسهم، هذا السلطان الذي كان هو وجنده أسرى للشهوات والأهواء، هرب قاصداً إحدى الجزر البحرية النائية في بحر قزوين، حيث مات ذليلاً، طريداً، وقبيل وفاته قال كلاماً بليغاً يدل على شدة ندمه على ما فرط في جنب الله سبحانه وتعالى: «لم يبق لنا مما ملكناه من أقاليم الأرض قدر ذراعين، تُحفَر فنُقبر، فما الدنيا لساكنها بدار، ولا ركونه إليها سوى انخداع واغترار، ما هي إلا رباط ، يدخل من باب ويخرج من باب ، فاعتبروا يا أولي الألباب».
أفرد الرومي في هذا كتاباً سماه «فيه ما فيه»، وهو عبارة عن حشد لمجموعة ذكرياته عن مجالس إخوانه في الطريقة، ويشتمل على قصص ومواعظ وأمثال وطرائف وأخبار، مخاطباً العامة، على عكس كتابه الأول الذي يخاطب خاصة الصوفية. كذلك روى الرومي فيه جانباً من هزيمة المسلمين أمام التتار، قائلاً: «في البداية كان المغول يأتون إلينا وهم عراة حفاة يركبون العجول ويحملون سيوفاً من خشب، إنهم يسكنون الصحارى والقفار، كانو أذلة وضعافاً وكانت قلوبهم منكسرة، في أحد الأيام قصدت جماعة من تجارهم سوقاً من الأسواق التي كانت تحت ولاية السلطان خوارزم شاه، وبينما هم منشغلون بتجارتهم البسيطة هاجمهم جنود السلطان وأجهزوا على تجارتهم وساموهم العذاب، بل قتلوا الكثير منهم، الناجون من التجار المغول هربوا نحو بلادهم فالتجأوا إلى ملكهم يشتكون ويطلبون النجدة، طلب منهم الملك أن يمهلوه عشرة أيام، فذهب إلى خارج البلدة واعتكف داخل غار صائماً متبتلاً متوسلاً، فجاءه نداء من الله: «لقد قبلنا شكواك، إذهب فأينما حللت فإنك منصور».
وكان الرومي يؤمن بوحدة الوجود، وصحة الأديان كلها، لأنها في النهاية تدعو إلى عبادة الله تعالى. وعبر عن هذا في قصيدة تقول:
نَفْسي، أيها النور المشرق، لا تَنأى عني لا تنأى عني
حبي، أيها المشهد المتألِّق، لا تَنأى عني لا تَنأى عني
انظرْ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي
بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري
أحملُ الزنار، وأحمل المخلاة.
لا بل أحمل النور، فلا تَنأى عني، لا تَنأى عني
مسلمٌ أنا، ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي
توكلتُ عليك أيها الحق الأعلى، فلا تَنأى عني لا تَنأى عني
ليس لي سوى معبدٍ واحد، مسجداً كان أو كنيسة أو بيت أصنام
ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي، فلا تَنأى عني لا تَنأى عني.
وفي المضمار ذاته، يقول جلال الدين الرومي أيضاً:
مجهول أنا عند نفسي، بربك خبِّرني ما العمل
ولا بهذا الكون ولا ذاك، ولا في الجنة ولا النار موطني
ولا طردت من عدن ولا يزدان، ولا من آدم أخذت نسبتي
بل من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم
تجردت عن بدني وروحي، فمن جديد أحيا في روح محبوبي.
أدت الفلسفة الإنسانية الرحبة التي انطوى عليها شعر الرومي إلى اهتمام المستشرقين به، إلى درجة أن فتحت في الغرب تخصصات أكاديمية عكفت على دراستها، وقبل سنوات قليلة سجلت مبيعات ترجمة بعض أشعاره أكبر حصة في الولايات المتحدة الأميركية. لذا صار الرومي أحد أكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة الأميركية، ويعرّفه شعبها باسم «رومي». وعلى رغم أنه لم يكن معروفاً فيها قبل أعوام قليلة، إلا أن الإقبال على دراسة أعماله انتشر في الجامعات الأميركية كلها. كذلك تنشر الأبواب الثقافية في الصحف الصادرة في المدن الأميركية الكبرى كلها تقريباً مواعيد قراءات أشعاره وإلقاء محاضرات عنه وأعماله. وأكبر مقياس على مدى شهرته، تسجيل مجموعة من نجوم السينما والمطربين أشعاره.
أبعاد الولع بجلال الدين الرومي في الولايات المتحدة تثير الدهشة والإعجاب. فخلال السنوات العشر الماضية، حسبما قالت مصادر متعددة، فاقت مبيعات دواوينه مبيعات دواوين أي شاعر آخر في الولايات المتحدة.
أوضح الشاعر الأميركي كولمان باركس، الذي كانت ترجماته لأشعار الرومي أكبر عامل أدى إلى شعبيته في بلاده: «طبيعة أفكار المذهب الصوفي التي تغلب على أشعار الرومي وجدت صدى لها بين الأميركيين الذين يسعون إلى هذه الخاصية. نفحات قصائد الرومي تحمل في ثناياها جوهر الرسالة الإسلامية، ألا وهي التسليم بقضاء الله».
وكان الشاعر الأميركي المعروف روبرت بلاي قدم أحد دواوين الرومي عام 1979، وكان مكتوباً بأسلوب أكاديمي رديء، وكان الترجمة الإنكليزية الوحيدة لأشعار الرومي آنذاك، فقال الشاعر آنذاك: «تلك الأشعار بحاجة إلى من يفك عقالها ويخرجها من القفص المحبوسة فيه».
سرعان ما شرع باركس في العمل. وحسبما قال، «لقد صغت أشعاره كشعر حر أو مرسَل باللغة الإنكليزية الحديثة. تلك الصياغة هي أقوى ما لدينا من تقاليد وأعراف شعرية. ثمة موسيقى شعرية كثيفة في مؤلفات الرومي، لكني لا أستطيع نقلها أو ترجمتها. إنني أنصت إلى ما ينبض بين أبيات شعره من مشاعر وعواطف، وأحاول أن أحذو حذوها كي أستخرجها، وأجعلها تنطلق مغردة وباهرة».
ولا يغفل باركس احتمال أن تقرّب أعمال الرومي بين الأميركيين والمسلمين: «الأميركيون لا يرون أموراً كثيرة في العالم الإسلامي، ومن بينها جلال الدين الرومي. إننا لا ندرك تماماً ما في أعماله من جمال. كلي أمل في أن تسهم تلك الترجمات في تيسير الفهم وأن تصبح بوابة يمكن أن تدخل منها أشعار الرومي».
وقالت المترجمة الكرواتية تيتش إن لقاءها مع كنوز الروح التي كتبها الرومي جعلها تلتقي بأصولها التي تتواجد في البشر كلهم. ووصف المستشرق الكبير أكرم شاوشفتش هذه الترجمة بأنها: «لحظة مهمة في تاريخ الثقافة الكرواتية».
كذلك كان لمؤلفات الرومي تأثير كبير في الأدب الفارسي والتركي والأوردي والعربي والغربي عبر ترجمته إلى لغات عالمية عدة. وغنى نجوم موسيقى بوب غربيون مثل مادونا ترجمات أشعاره لتعظيمه قوة الحب، واعتقاده في فائدة الموسيقى والرقص الروحية.
ولم يقتصر عطاء الرومي على الفلسفة والأدب، بل أسس طريقته الصوفية التي لا يزال مريدوها ينتشرون في كل أنحاء العالم. وكانت المولوية هي التي تتكفل بتقليد السلطان العثماني سيفه عند جلوسه على العرش، كذلك انتسب إليها الكثير من الأمراء، وظلت هذه الفرقة محل إجلال وتقدير طيلة العهد العثماني إلى أن ألغاها كمال أتاتورك عام 1926، عندها تحوّل مركز المولوية إلى حلب في سورية.
وظل الرومي يقدم المواعظ والمحاضرات إلى مريديه ومن يتابعه من الخاصة والعامة، إلى أن وافته المنية عام 672 هـ، 1273م عن عمر يناهز السبعين عامًا، وحمل نعشه أشخاص من ملل خمس إلى مثواه الأخير، وأطلق مريدوه على ليلة وفاته «ليلة العرس» ولا يزالون يحتفلون بهذه الليلة إلى الآن. دُفن الرومي إلى جانب قبر والده، في ضريح معروف بقونية، وكتب على الضريح بيت عميق بليغ من الشعر يخاطب به الرومي زائريه:
يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال
قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال.