جزاء المتقين
يقول
الحق سبحانه وتعالى في سورة الحجر: “إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها
بسلام آمنين، ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم
فيها نصب وما هم منها بمخرجين، نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن
عذابي هو العذاب الأليم”.
والمعنى أن المتقين الذين صانوا أنفسهم عن
الشرك، وقالوا ربنا الله ثم استقاموا في جنات عالية، فيها ما تشتهيه
الأنفس، وفيها منابع للماء تلذ لها الأعين تقول لهم الملائكة -على سبيل
التكريم والتحية- عند دخولهم الجنات واستقرارهم فيها ادخلوها أيها المتقون
تصاحبكم السلامة من الآفات، والنجاة من المخافات.
نشأة جديدة
ثم
بين سبحانه ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي ونقاء قلبي فقال: “ونزعنا ما
في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين” والنزع: القلع، ويقال: نزع فلان
هذا الشيء من مكانه إذا قلعه منه، والغل: الحقد والضغينة، والسرر: جمع سرير
وهو المكان المهيأ لراحة الجالس عليه وإدخال السرور على قلبه.
أي:
وقلعنا ما في صدور هؤلاء المتقين، من ضغائن وعداوات كانت موجودة فيها في
الدنيا، وجعلناهم يدخلون الجنة إخوانا متحابين متصافين، ويجلسون متقابلين
على سرر مهيأة لراحتهم ورفاهيتهم وإدخال السرور على نفوسهم.
وعبر سبحانه
بقوله “متقابلين” لأن مقابلة الوجه للوجه أدخل في الإيناس، وأجمع للقلوب..
والآية الكريمة تشعر بأنهم في الجنة ينشئهم الله تعالى نشأة أخرى جديدة
وتكون قلوبهم فيها خالية من كل ما كان يخالطهم في الدنيا من ضغائن وعداوات
وأحقاد وأطماع وغير ذلك من الصفات الذميمة ويصلون بسبب هذه النشأة الجديدة
إلى منتهى الرقي البشري.
وقد ساق الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية
عددا من الأحاديث والآثار منها ما رواه القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل
الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا توافوا
وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا، ثم قرأ: “ونزعنا ما في صدورهم
من غل”.
جزاء المتقين
ثم ختم الله سبحانه بيان جزائهم بقوله: “لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين”. والنصب التعب والإعياء.
قال
ابن كثير: قوله سبحانه: “لا يمسهم فيها نصب” يعني مشقة وأذى كما جاء في
الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله أمرني أن أبشر
خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب”.
والمقصود بقول الله
عز وجل: “وما هم منها بمخرجين” أنهم باقون في الجنات بقاء سرمديا دائما لا
ينقطع كما جاء في الحديث: “يقال لأهل الجنة يا أهل الجنة: إن لكم أن تصحوا
فلا تمرضوا أبدا وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا
تهرموا أبدا وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا”.
بشارات وتعظيم
يقول
الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر: إن هذه الآيات الكريمة اشتملت على
بشارات للمؤمنين الصادقين، مقرونة بالتعظيم خالية من الشوائب والأضرار،
باقية لا انقطاع لها.. أما البشارات فنراها في قوله تعالى: “إن المتقين في
جنات وعيون” وأما اقترانها بالتعظيم والتكريم فنراه في قوله تعالى “ادخلوها
بسلام آمنين” وأما خلوها من الشوائب والأضرار فنراه في قوله تعالى:
“ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا”.. وأما بقاؤها واستمرارها فنراه في
قوله تعالى: “وما هم منها بمخرجين”.
ثم بين الله سبحانه نماذج لمن
شملتهم رحمته لإيمانهم وعملهم الصالح، ولمن شملتهم نقمته لكفرهم وعملهم
الطالح فقال سبحانه: “نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب
الأليم”.
والخطاب في قوله تعالى “نبئ عبادي” للرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى:
أخبر أيها الرسول الكريم عبادي المؤمنين أني أنا الله تعالى الكثير
المغفرة لذنوبهم، الواسع الرحمة لمسيئهم، وأخبرهم أيضا أن عذابي هو العذاب
الشديد، فعليهم أن يقدموا القول الطيب والعمل الصالح لكي يظفروا بمغفرتي
ورحمتي وينجوا من عذابي ونقمتي، وقد جمع الله سبحانه وتعالى في هاتين
الآيتين بين المغفرة والعذاب، وبين الرحمة والانتقام، وبين الوعد والوعيد
لبيان سنته سبحانه في خلقه.