الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
رحلة الشتاء والصيف
تزوج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة بنت وهب وتوفي ومحمد صلى الله عليه وسلم جنينا في بطن أمه فولد محمد صلى الله عليه وسلم يتيما
وأرضعته حليمة السعدية وجرت معه أمور مهمة في ديار بني سعد سنذكرها فيما بعد إن شاء الله ونعلق عليها
وبعد ذلك أرجعته حليمة إلى أمه آمنة وعاش معها حتى توفيت وهو في السادسة
من عمره فكفله جده عبد المطلب وأحاطه بكثير من الرعاية والعناية والتقدير
والعطف إلى أن توفي حينما أصبح محمد صلى الله عليه وسلم في الثامنة من
عمره
وكفله عمه أبو طالب وعاش محمد صلى الله عليه وسلم في كنف عمه أبي طالب
الذي كان يربيه ويرعاه ويحيطه بالكثير من الرعاية والمحبة حتى كان يقدمه
على أولاده.
وكان من عادة أهل مكة أن يعملوا بالتجارة وكان لهم رحلتان لتحقيق ذلك هما
رحلة الشتاء ورحلة الصيف إلى بلاد ا ليمن والشام وهذا ما امتن به الرب عز
وجل عليهم حينما ذكرهم بالقرآن الكريم بهاتين الرحلتين بقوله تعالى بسم
الله الرحمن الرحيم
( لإيلاف قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ
جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)
وهكذا قرر أبو طالب أن يذهب بتجارة إلى الشام وكان عمره صلى الله عليه وسلم ذلك الوقت حوالي 12 سنة كما عليه الأكثر .
وحينما شدّ أبو طالب الرحال و أراد السير تعلق به رسول الله صلى الله عليه
وسلم وطلب منه ألا يتركه لوحده بل أن يأخذه معه . وما كان من أبي طالب وهو
الذي أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم كل حب وحنان ورعاية إلا أن يستجيب
لنداء ابن أخيه بعد أن رق له رقة شديدة .
ولماذا لا يأخذه معه ولمن يتركه إن ذهب إلى الشام وحده؟ أيتركه إلى أب
توفي وهو في بطن أمه أم يتركه إلى أم فارقت الحياة ولما يبلغ السادسة من
العمر أم يتركه لجده الذي فارق الدنيا وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
حوالي ثمان سنوات .
ورحلت القافلة باتجاه الشام متشرفة بصحبة سيد الأنام .
وفي بصرى الشام بل قبلها بقليل كانت صومعة يسكن فيها أحد الرهبان المؤمنين .
البقية الباقية من أتباع سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وكان هذا الراهب قد انتهى إليه علم النصرانية على الأغلب وكان يدعى ب بحيرى الراهب .
وأمام باب الصومعة وعلى بعد قليل منها شجرة معمرة
أقول :
تابع تجار قريش طريقهم في اتجاه الشام حتى وصلوا إلى ذلك المكان . الذي يوجد فيه الراهب بحيرى .
فأناخوا جمالهم وجلسوا تحت ظل الشجرة يستريحون . من وعثاء السفر ومن عناء الرحلة .
كان بحيرى الراهب يراقب تجار قريش من باب الصومعة .
فعرف أن بينهم النبي المنتظر . فأرسل يدعوهم إلى وليمة قد أعدها لهم . وطلب منهم أن لا يتخلف أحد منهم عن الوليمة .
وجاء الجميع إلا أصغرهم سناً محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وفتش
بينهم بحيرى فلم يجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم في أحد منهم فقال لهم
يا معشر قريش ألم أقل لكم : لا يتخلفن أحد منكم فأجابه أحدهم مقسماً أنه
لم يتخلف منهم إلا ولد صغير هو محمد بن عبد الله فقال : لا تفعلوا ادعوه
لا يتخلفن عنكم مع أني أراه من أنفَسكم . فقالوا هو والله من أوسطنا نسباً
..
وذهب أحدهم واحتضن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما إن جلس محمد صلى الله
عليه وسلم حتى أخذ بحيرى يطوف به ويتفحص أجزاء من جسمه ثم قال له يا غلام.
أسالك بحق اللات و العزى إلا ما أخبرتني عن أشياء أسألك عنها .
فأجابه محمد صلى الله عليه وسلم لا تسألني باللات والعزى
فو الله ما أبغض شيئاً قط بغضي لهما . ( بغضهما )
فأقسم عليه بالله فأجابه محمد صلى الله عليه وسلم عما سأله وهنا التفت
بحيرى إلى أبي طالب وقال له ما يكون منك هذا الغلام قال ابني . قال ما
ينبغي أن يكون أبوه حياً . قال هو ابن أخي توفي والده وهو في بطن أمه قال
صدقت قال فما فعلت أمه قال توفيت قريباً قال صدقت . فارجع بابن أخيك إلى
بلاده واحذر عليه من اليهود فوا لله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغينه
شراً .
فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم .أي نجده بكتبنا ورويناه عن آبائنا.
فما كان من أبي طالب إلا أن أمر برجوع ابن أخيه إلى مكة المكرمة ونحن هنا أمام تساؤلات . وأمام أمور يجب توضيحها .
هذا الرجل المؤمن بحيرى الراهب البقية الباقية من السلف الصالح وأتباع الرسالات السماوية السابقة
أقول : من الذي أعلم هذا الراهب بعلامات النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الذي أخبره عن تلك الإشارات الدالة على قرب النبوة بل على النبوة بعينيها .
يقول الراهب . هذا ما تلقيناه من آبائنا وهذا ما وجدناه بكتبنا .
فمعنى كلامه أن السيد المسيح عليه السلام قد أخبر وبشر بسيد الكائنات من بعده محمد صلى الله عليه وسلم .
وأعطى أتباعه وصفاً دقيقاً كاملا عن علاماته .حتى أصبح يعرف رسول الله صلى
الله عليه وسلم أكثر مما يعرف ابنه الذي هو من صلبه واسمع إلى سؤال ألقاه
الفاروق عمر رضي الله عنه على عبد الله بن سبأ رضي الله عنه . أحق هكذا .
أتعلم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما تعلم بنوة ابنك لك : قال بل أعلم
نبوة محمد أكثر مما أعلم نسب ابني إلي . أعلم أن الله أنزل أمينه في سمائه
إلى أمينه في أرضه بوحيه فكان هو محمد عليه الصلاة والسلام ولكن لا أعلم
ما كان من شأن أم أولادي .
وهكذا أخبر سيدنا موسى عليه السلام : وكل نبيّ من الأنبياء يبشر بمن يأتي
بعده . وتلك سلسلة متصلة ببعضها . ذات طابع واحد ورسالة واحدة هي رسالة
الإسلام والإيمان . هي رسالة الإذعان والإيقان برب واحد وإله واحد ومعبود
واحد . أرسل رسالة واحدة . بسلسلة متتابعة . وهكذا فالمصدر واحد والإعلام
من الرب عز وجل إذاً . بعلامات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
نظربحيرى في القوم وهم في طريقهم إلى الشام فإذا بغيمة تظلله صلى الله عليه وسلم من دون قومه ..
وسبقه قومه فنزلوا وجلسوا يستريحون تحت الشجرة ولم يبق في الظل مكان يتسع
لأحد . فيجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب الشجرة ولكن لا في ظلها
فإذا بالشجرة تميل لكي تظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ثم فإذا بالغمامة تلقي بظلها من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ظل الشجرة .
وماذا بعد يكشف بحيرى عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بصره يقع على خاتم النبوة محفورٌ بلحمه بقدرة قادر .
ويكب عليه ويقبل الخاتم. وعلامات أخرى .
وكلها علامات كالشمس الساطعة في رابعة نهار صاف .
وبقي من كلام الراهب شيء أساسي هو تحذير أبي طالب من أن يقتل اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم .
وهنا السؤال لماذا يريد اليهود قتل محمد صلى الله عليه وسلم وهم لم يجدوا بعد شيئاً منه . إن الحافظ له هو الله فلماذا التحذير
الجواب لذلك .
إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل في هذا الكون شيئاً يقوم على الفوضى بل
اقتضت حكمته تعالى أن يبني هذا الكون على أساس متين من الأسباب والمسببات
والنظام الكامل وتلك سنة الله .
ولن نجد لسنة الله تبديلاً ولن نجد لسنة الله تحويلاً وليس معنى ذلك أن
الأسباب والمسببات هي الفاعلة /لا /. وإنما الفاعل الحقيقي هو الله عز وجل
ولكننا نأخذ بالأسباب والمسببات امتثالاً لأمر الله عز وجل وهكذا .كان على
بحيرى أن ينبه أبا طالب على وجوب اتخاذ الحيطة والحذر .
وأما قضية عداوة اليهود . فقد كان وما زال هذا الشعب معروفا بحقارته ودناءته . معروفاً بسفالته وخسته .
فهم أصحاب الجدل . واسمع إلى جدلهم حينما قال لهم سيدنا موسى
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ
بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ}ا لبقرة (67)
وهنا أمرهم كما هو ملاحظ أن يذبحوا بقرة فمعنى ذلك أن أي بقرة تفي بالغرض
المطلوب ولكنهم كما نوهنا أصحاب جدل فقالوا أدعو لنا ربك يبن لنا ما هي ثم
قالوا ادعوا لنا ربك يبن لنا ما لونها وهكذا يلاحظ أنهم شددوا على أنفسهم
فشدد الله عليهم إلى آخر القصة المعروفة في سورة البقرة
وهم الذين كفروا بآيات الله عز وجل وهم قتلة الأنبياء .
لاحظ معي هذه المعاني في الآية الكريمة{أَفَكُلَّمَا
جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} البقرة 87
هكذا كان أعداء الله على مر التاريخ لا يرعون لأحد إلاً ولا ذمة
ولله در الشاعر الذي قال فيهم
ويا قاتل الله اليهود فإنهم .... أشد الورى كفراً وأخبثهم مكرا
عقيدتهم في الله شر عقيدة ... تنزه عنها ربنا وعلا قدرا
وأفحشها يعقوب صارع ربه .. فيا بئس هذا القول من فرية تفرى
إنهم القوم الذين حرفوا كلام الله سبحانه وتعالى فوضعوا في التوراة ما
يريدون وشوهوا ذلك الكتاب السماوي الذي لم تعد تدري الغث فيه من السمين
والصحيح فيه من السقيم .
هؤلاء هم أصحاب السبت الذي مسخ الله قسماً منهم فجعلهم قردة خاسئين . {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}البقرة (65)
هؤلاء الأنجاس كانوا يعلمون بأن النبي المنتظر سيفضحهم ويبين أخطاءهم وذنوبهم الفاضحة .
وسيأخذ على أيديهم إن لم يؤمنوا بالله ...
كل هذه الأمور التي كان يعلمها اليهود . والتي كان يعلمها بحيرى كانت مع غيرها السبب في تحذير أبي طالب من غدر اليهود بابن أخيه .
وانظر إلى الحوادث فيما بعد تنبئك صدق هذا التحذير .
واسمع إلى صفية بنت حيي بن أخطب زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث .
أن أباها وعمها ذهبا لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى
المدينة المنورة ونزوله في قباء .
كما أنهما عرفا حقيقة أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر واسمع إليها تقول .
" فسمعت عمي يقول لأبي أهو هو ( أي المبشر به في التوراة ) قال نعم قال
أتثبته . قال نعم قال فما في نفسك قال : عداوته والله ما بقيت أبداً " .
نعم يا أخي إن اليهود قد عرفوا حقيقة أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو
النبي المنتظر بل قص القرآن أنهم كانوا إذا تضايقوا من الأوس والخزرج
استفتحوا عليهم بالنبي المنتظر . وجاء النبي المنتظر ولكن لا كما كانوا
يتوقعون أي أن يكون منهم بل كان من امة أمية هي الأمة العربية . وكان
المنتظر أن يؤمنوا وهم قد تحققوا من هويته صلى الله عليه وسلم . ولكن ماذا
تنتظر من قوم لم يسجل التاريخ لهم إلا سيئات ملؤوا بها وجه الدنيا ماذا
ننتظر . أيكون الكفر والإيمان بقلب واحد. أيكون الصدق والكذب بقلب واحد ,
أتكون الضلالة والهداية بقلب واحد اللهم لا
((مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)) الأحزاب (4)
إذا فليبقوا على كفرهم وعنادهم وليندد بهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم
{لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} {تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ
يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ
خَالِدُونَ}المائدة 78,79,80
هذه هي بعض الأسباب – وهي التي ثبتت فيما بعد ثبوتاً كاملاً – التي جعلت
بحيرى يحذر أبا طالب من غدر اليهود وعاد أبو طالب بابن أخيه إلى مكة
المكرمة .