وتكللت رحلة الفرقة التي عمل بها الى أعاده اكتشاف (قصر الأخيضر) في ربيع عام 1908 والتي كانت مادة كتاب نشره في القاهرة أعوام 1910 و1912 تحت عنوان (بعثة أثرية في العراق) ،وحدث ذلك بمعية (المس بيل) (1869-1926) أو (الخاتون) كما كناها البغداديون.وخلال تلك الفترة درس الدين والتاريخ الإسلامي في الأزهر ومن مناقب الرجل انه لبس جبة وعمامة طلاب الأزهر وعاش مثل عيشهم وهي حالة قليلة الحدوث لدى الغربيين .وقد درّس ابتداءا من العام 1910 في الجامعة المصرية القديمة وكان أحد طلابه الدكتور طه حسين ، وحاضر أربعين مرة وكانت مواضيع محاضراته تدور حول المذاهب الفلسفية في الإسلام والمصطلحات الفلسفية المستعملة وألف بها كتاباً اسمه (تاريخ الاصطلاحات الفلسفية) .
وكتب خلال تلك الفترة أبحاثاً عن (بغداد) و(المحمرة) وكتاباً عن (الحج في بغداد) ودراسة مستفيضة للمخطوطات القديمة في مكتبات بغداد ودراسة عن الطرق الصوفية وجوهر الخلاف بين الطريقتين الرفاعية والقادرية تحت عنوان(المعركة الأخيرة بين الرفاعية والقادرية).
ولقد باشر بأول دراسة له عن الحلاج عام 1909 عنوانها(عذاب الحلاج والطريقة الحلاجية) تبعتها دراسة أخرى عام 1911 بعنوان (الحلاج ،الشبح المصلوب والشيطان عند اليزيدية) والتي أراد فيها استظهار العلاقة الباطنية بين فكر الحلاج المتداخل مع فكر فرقة دينية تعيش في شمال غرب العراق وبالتحديد في جبل سنجار، ولديها طقوس غريبة ، يعبدون خلالها الشيطان. وهي ديانة محلية قديمة متداخلة مع حدث تاريخي إسلامي يتعلق بسقوط الدولة الأموية والهاجس الذي تبعها في ظهور الأموي المنقذ .ومازال أسم فرقتهم (اليزيدية) يثير جدلا ولغطا.
وقد تسنى له ان يطلع على عدد وفير من المخطوطات الفارسية محفوظة في متاحف اسطنبول ولندن تتحدث عن قصة الحلاج. فاصدر من تلك المصادر دراسة موسعة عام 1913. ثم توسع بحثه لكل ما وصلت إليه يداه بحيث قرر أن تكون موضوع اطروحتة لنيل شهادة الدكتوراه. وإبان ذلك نشبت الحرب العالمية الأولى 1914التي رافقها حدثان أولهما انخراطه في العسكرية ومعمعة الحرب وثانيهما زواجه الذي أثمر عن ولدين وبنت . وقد نُسّب الى خدمات وزارة الخارجية واشترك في معركة الدردنيل ضد العثمانيين ودخل مدينة القدس عام 1917 مع الجيش الذي قاده الإنكليزي (اللنبي Allenby) .ثم الحق بمكتب المندوب السامي الفرنسي في سوريا وفلسطين وقليقيله بعيد الحرب عام 1919 .ثم سرح بعد ذلك من الجيش وعين في مدرسة (كوليج دو فرانس) كاستاذ لمادة (الاسلام الاجتماعي).ومما أسف عليه ماسينيون هنا انه وقبل انشغاله بالحرب ، أوكل مهمة طبع أطروحة الدكتوراه لإحدى المطابع في بلجيكا التي من سوء طالعه أنها قصفت واحترقت إبان أحداث الحرب تلك .ولكنه أفلح في جمع أشلائها و إعادة كثير من موادها و أخرجها في كتاب(عذاب الحلاج شهيد التصوف في الإسلام) واتسعت لتشمل الف صفحة . ومن لطائف الأمور هنا انه طلب ان يناقشها كأطروحة لنيل الدكتوراه في الجامعة في يوم محدد يحمل دلالات تعلقه الروحي بالحلاج وكان ذلك اليوم هو 24 آذار(مارس) عام 1922 أي نفس يوم إعدامه بعد الف عام بالتمام والكمال .وزخرت تلك الأطروحة بكنز من المعلومات والتحاليل والآراء عن الحياة الروحية والعقلية في الإسلام والمكتبة الإسلامية مدينة له بهذا الإنجاز الفذ.
أصدر ماسينيون بعد ذلك كتاب(بحث في نشأة المصطلح الفني في التصوف الإسلامي )الذي طبع مرات عديدة وكان قد استعرض فيه نشأة التصوف في كنف الإسلام وأقر فيه رأيه القائل بأن التصوف ظاهرة إسلامية خالصة مستمدة جذورها من القرآن والسنة ومعارضا بذلك رهطاً كبيراً من الغربيين ممن يرجع أصلها الى جذور الأفلاطونية الحديثة و الغنوصية أو حتى من المذاهب الفلسفية الهندية . أما رأيه بالموقف التصوفي للحلاج فقال ماسينيون في ذلك
إن الحلاج سعى لتحرير نفسه خارج الجماعة السنية بالبحث عن الصلب عينه الذي ناله في نهاية المطاف وهو الأمر الذي يرفضه الاسلام رفضا قاطعا) .وكان الرسول محمد (ص) كما يرى ماسينيون قد رفض الفرصة التي اتيحت له لعبور الهوة التي كانت تفصله عن الله .ولذلك فأن أنجاز الحلاج تمثل بكونه قد حقق وحدة أسرارية بالله معاكساً طبيعة النظرية للاسلام.ومن الجدير بالذكر أن السياسة الاستعمارية لفرنسا وإنكلترا في مستعمراتها الإسلامية قد أهتمت ودعمت الطرق الصوفية حتى كاد أن ينخدع العامة ويظنوا ان المستعمرين يخافوا من لعنة شيوخ الصوفية و سطوة مراقدهم .وتذكر لنا الأخبار بالتسهيلات التي كانت تقدم في مصر لنقل زوار تلك (المشاهد )على القطارات الإنكليزية في مواسم الزيارة .ويتذكر الجزائريون العلاقة الممتازة التي تمتع بها بعض صوفيي (مرابطي) الجزائر مع الفرنسيين حتى بنوا القباب لأولياء الله الصالحين(مرابط Marabou) على قمم الروابي في مزارع المستوطنين الفرنسيين . ثم كتب ماسينيون الكثير من البحوث التي شارك بها في مؤتمرات المستشرقين المتوالية وظهر له مؤلف (مجموع نصوص غير منشورة تتعلق بتاريخ التصوف في الإسلام) الصادر في باريس عام 1929 ثم بحوث عن التيارات الفكرية التي لم يجمعها أحد قبله مثل فرق (القرامطة) و(النصيرية) و(الشيعة) و(الاسماعيلية) بعد دراسته لهم على الطبيعة في منطقة (السلمية) السورية وكذلك عن (الطريقة السنوسية) في ليبيا ثم كتب عن شخصيات إسلامية متعددة صوفية وعلمية ومنها مثلاً (الخراز) و(الكندي) و(المحاسبي) و(النوبختي) و(نور محمدي) و(سهل التستري) و(السري السقطي) و(الترمذي) و(الوراق) وحتى الشاعر العراقي (معروف الرصافي) .ثم شرح بإسهاب بعض المصطلحات مثل (شطح) و (طريقة) و(تصوف) و(ورد) و(زنج) و(زنديق) و(زهد) وحتى وصل به البحث ليكتب عن عمارة (قصر الأخيضر) في بادية العراق ويحلل عناصرها العمارية وبعد ذلك الى أي طراز تمت الصلة والى أي تاريخ تنتمي .لقد نشط في شرح أفكاره ومذهبه خلال تدريسه في مدرسة (كوليج دو فرانس)بين عامي 1926 و1954 حيث تقاعد العمل بعدها ولكنه استمر بنشاطه البحثي كمشارك في مجامع اللغة العربية في القاهرة (تاسس عام 1933) ودمشق . وقد أعيد عام 1957 كتابه عن شعر الحلاج الذي كان قد أخرجه العام 1931 .
ومما يلفت النظر في سيرة هذا الرجل الذي تحتار الألباب في القرار عن مصداقيتها أو تذبذب الظن بكونها كانت مسيرة استشراقيا أم مخيرة تماشيا مع كل ما قدمه و أماط اللثام عنه من الكنوز المخفية في الثقافة الإسلامية .وربما يكون أحد الأمرين أو كلاهما ما ينطبق على حالته .وبصدد تلك الكنوز التي أزال الغبار عنها كتابته عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي عام 1934 ونشره بحث في ذلك تحت عنوان (سلمان باك والبواكير الأولى للإسلام الإيراني) وكتبه الدقيقة ومنها كتابه عن (الأسس الشيعية لاسرة بني فرات) وكذلك كتابه الصادر عام 1938 عن (فاطمة الزهراء بنت الرسول(ص)) التي أسهب في تحليل مبرر مكانتها الاستثنائية لدى أصحاب المذهب الشيعي في الإسلام .
وكان شغل ماسينيون الشاغل في أخر أيامه بقصة (أهل الكهف) وتوسع في البحث عنها عام 1955 الذي كان امتداداً للبحوث التي كتبها أعوام 1938-1940. ومن خصائص ذلك البحث انه طرق فيه المقارنة بين ما ورد في ذلك بين النصوص والمفاهيم الإسلامية والمسيحية . وأخر بحث قام به هو بعنوان (غيوم ماجلان واكتشاف العرب لها) وهي تشرح رائدية المسلمين بمعرفة النجوم التي اهتدى بها الرحالة ماجلان عند اختراقه للمحيط الهادئ والتي كان العرب يسمونها في كتب الفلكيين نجوم (البقر) . وكان دائب البحث في شؤون الساعة والتزم خطا ثابتا بالدعوة الى التسامح والإخاء بين الأديان وبين الشعوب ،وأستمر منتجا حتى وافته المنية يوم 31 تشرين الاول (اكتوبر) عام 1962 ويذكر أصدقاؤه انه كان يردد في لحظاته الأخيرة الآيتين الكريمتين التي تعوّد ترديدها طوال حياته مقلدا في ذلك صديقة وتوأمه الروحي الحسين الحلاج وهما (لن يجيرني من الله أحد) (سورة الجن الآية 22 )، وكذلك الآيتة الكريمة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) (سورة الشورى الآية 1).
و الآية الأخيرة كان قد رددها الحلاج قبل أن يفصل رأسه عن جسده ثم سمت روحه الى بارئها كما أراد هو أن يستعجلها .وبذلك رسم الحلاج بروحه الصاعدة خطاً لصعود النفوس الباحثة عن الحق والجاعلة من الحقيقة الطريق الأوحد إليها. وهو مانحتاجه اليوم أمس الحاجة.
المصادر لهذه المعلومات التي أرفقتها بالبحث :
1. القرآن الكريم
2. بدوي د.عبدالرحمن موسوعة المستشرقين بيروت 1984.
3. السيد جاسم عزيز متصوفة بغداد - بغداد 1990
4. القبة د.فاروق همسات من الشمال تونس 1998 .
5. متز آدم - الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الاسلام- بيروت 1985
6. ماسنيون وكراوس - أخبار الحلاج - بيروت 1965 .
7. سعيد أدوار- الاستشراق . المعرفة .السلطة.الأثار - بيروت 1991
8. الطبري أبي جعفر محمد بن جرير - تـاريخ الأمم والملوك-بيروت 1988 .
أتمني أن أكون وفقت في أضافة معلومة صحيحة لديكم