بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70- 71]
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فأحبتي في الله..
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة... إني أحبكم في الله
وأسأل الله الكريم جل جلاله أن يجمعنا بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعل عملنا كله صالحا، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل فيه لأحد غيرك شيئا.
قال الله سبحانه وتعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُو أَخْبَارَكُمْ}
[سورة محمد:31]
وقال جلاله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[سورة النور:55]
إن الحرص على هداية الناس في أقل وقت ممكن لهُو رغبة غالية عالية لدى جميع الدعاة، وهو أمل يراود أحلامهم، ولكن عظمة الدين الإسلامي ومطلبه في إعداد الرجال وتهيئة النفوس يأبيان ذلك، وهكذا أيضا سنن الله عز وجل الكونية والشرعية تأبى ذلك.
قال سبحانه وتعالى:
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّو يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}
لأن إعداد الرجال وصناعتهم وتغيير نفوسهم وقلوبهم يحتاج إلى وقت، والزمن جزء من العلاج. فالذين استجابوا لله والرسول في مكة في بداية الدعوة كانوا قلة لا تزيد عن الثلاثمائة. كانوا قلة ولكنهم كانوا العمد الراسية التي حملت البناء كله، وعملت للتمكين لدين الله في الأرض، ذلك لأنهم قضوا فترة التربية الكافية في المحضن التربوي الأول في مكة على عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأمر ربه جل جلاله؛
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}
[سورة الكهف:28]
وتفهم قولي هذا حين تعرف أن واحداً من هذا الجيل الفريد كمصعب بن عمير رضي الله عنه استطاع أن يدخل الإسلام إلى كل بيت في المدينة بصدقه وإيمانه وحسن توجهه بدعوته بعد تربيته التربية التي ذكرناها
.
ولك أن تدرك
أهمية عامل الوقت وعامل الصبر في صناعة الرجال حين تعرف أن الثلة السابقة الذين استجابوا للدعوة في أول الأمر قد نالوا من رعاية النبي صلى الله عليه وسلم النصيب العظيم الأوفى لمدة ثلاث عشْرة سنة متفرغا لهم، فقام الأساس عليهم وتأسيس الدين بهم، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم جامعة شهدتها الدنيا وعرفها التاريخ، ولن يشهد الزمان مدرسة تربوية كهذه المدرسة الربانية التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فتخرج منها رجال أبطال تواضعوا لله وقادوا البشرية إلى الله، خرجوا براية التوحيد تتفتح أمامهم قبل البلاد، راحوا يبثون النور، ويخرجون العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فدمدموا أساطير الشرك، وتبروا حصون الوثنية، وسرى سيل الإسلام يغسل وجه الأرض الكالح بنور التوحيد الخالص، ويرفع الآصار والأغلال وذلك لأنهم تربوا.. وتربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدة الكافية، ولذلك فإن الدعاة والعلماء – من هذه الأمة – كان عملهم ولا يزال هدفهم إنشاء بناء متين من لبنات صالحة معدة إعدادا تربوياً وثيقا، وكان عملهم وما يزال هو إعادة بعث روح الإسلام في نفوس المسلمين.
على أن الأمر يحتاج إلى مدة مديدة وزمن طويل.
إن بناء عمارة يمكن أن يكون سهلا، بل وبناء مدينة، ولكن بناء الرجال من الصعوبة بمكان، فكيف إذا كان الأمر متعلقا بأمة كاملة؟!
إن إعادة بناء أمة الإسلام مرة أخرى بعد أن خرب الأعداء نواحيها، وعاشوا مدة مديدة من الزمن يفسدون فيها يحتاج إلى جهد جهيد، وعمل مضْنٍ متواصل، وصبر طويل جميل.
إن الأمة الإسلامية بدأت الانحراف عن الصراط المستقيم بعد عهد الخلافة الراشدة تقريباً، فانظر على مدار ألف سنة أو أكثر كيف كان الانحراف يزداد يوماً بعد يوم، إلا في فترات صحوة نادرة، كانت الأمة تعود إلى وعيها فتتلاءم وتزدهر وتنتصر، ثم لا تلبث أن تعود فتخسر وتنكسر.
وللإنصاف – بل وللحق والتاريخ – نقول: إنه كانت طائفة من الأمة دائماً على الحق لم تنصرف عنه ولم تتخلف، ولم يصبها ما أصاب الناس مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: »لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (صحيح مسلم: 1920)
ولكننا نتكلم عن السواد الأعظم، ونتحدث عن الأعم الأغلب، فانظر كيف يبلغ الانحراف مداه إذا كان طيلة هذه السنين مزيداً؟!
وإذا كان قد آن لهذه الأمة أن تعود إلى رشدها، ويعود إليها صوابها؛ فإنها تحتاج لا نقول إلى مثل هذه المدة، ولا إلى قريب منها، وإنما إلى وقت مناسب، وعلاج مركز لنستطيع:
أولاً
: إعادة تأصيل الأصول
التي انهدت أو ضاعت أو تغيرت, مثل الأدب والأخلاق..
وانظر معي إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : »إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (صحيح مسند الإمام أحمد: 2/381). فقوله أتم دليل على أن الأصول كانت موجودة، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لتتميم هذه الأصول، وتكميل ما ليس موجوداً.
أما اليوم؛ فنتيجة غلبة النزعة المادية من جهة، وتقليد الغرب من جهة أخرى، والجهل مع الغزو الثقافي من جهة ثالثة؛ فقد ضاعت أصول الأخلاق، وصرنا بحاجة إلى بعث أخلاقي كامل من جديد. لذلك لا تتعجب إن وجدتنا أطلنا النفس في شرح آداب وتقرير مسائل من المفترض أن تكون من المسلمات، بل قد يعجبك في هذه الآداب أن تجد فيها ما لم تكن تعلم.
ثانياً: تصحيح المفاهيم،
فإنك تجد نتيجة طول الأمد، وتطاول الزمن أنه قد اندثرت علوم، وتجوهلت معانٍ عن عمد أو عن غير قصد، فانقلبت الموازين، وأصبحنا فعلا بحاجة إلى إعادة تصحيح المفاهيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إنها ستأتي على الناس سنون خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، وتؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة» قيل: وما الرويبضة؟ قال: »السفيه يتكلم في أمر العامة» (صحيح، سنن ابن ماجة: 4036).
فانظر إلى هذا الحديث، وانظر إلى حال الناس في هذه الأيام؛ فإنك تراه حقا وكأنه وصف دقيق لما تعانيه الأمة، لقد صارت الأمة في حاجة إلى تصحيح مفاهيم في التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، بل وفي المنهج - منهج أهل الحق في الاستنباط والاستدلال- وتحديد أولوياته، ومعرفة العالم الذي تتلقى عنه العلم.
ثالثاً
: إعادة التوازن إلي الحياة؛
فإن من أكبر المعوقات التي تحول بين المسلمين اليوم وبين التمكين هذا الانفصال المريب بين العلم والعمل للدنيا والآخرة، وإن الأمة عاشت أزهى عصورها حين كان الدين يحكم الحياة. أما اليوم فإننا نرى أن من يسلك طريق الدين يهمل ويتواكل حتى يضيع أبسط معاني الحياة، وإدارة الحياة، وعمارة الدنيا، وخلافة الأرض. تهاون مريب، وتواكل عجيب، وبطالة مقنعة ذهنية وعضلية.
وعلى الطرف الآخر تجد من يطلب الدنيا وينشط في إصلاحها والمنافسة في عمارة الأرض وإصلاح الحياة، يفرط في أبسط قواعد الدين، وينكر المعلوم من الدين بالضرورة، ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. فنحن بحاجة فعلية لمنهج واقعي يضبط العلاقة بين الدنيا والآخرة، ويجمع بين عقلية المخترع وقلب الورع.
رابعاً
: إعادة كيان الأسرة
، فالأسرة في الإسلام هي اللبنة الأولى للمجتمع التي يقوم عليها بناء الأمة كلها، لذلك يعقد الإسلام آمالا عريضة على الأب في البيت وعلى الأم أيضا، وكأن الجميع رؤساء دول. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته،فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته».
[صحيح البخاري 2232]
فانظر إلى المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق أب يوصف بأنه راع وكأنه قائد جيش. لقد ضاعت الأسرة اليوم - أو تكاد - لأن الأب تائه في أودية الدنيا، مشتت القلب والعقل بين المظاهر والماديات، والأم ضلت الطريق ما بين "التليفزيون" و"التليفون"، وما بين "الموضة" و"المكياج".
وهكذا ضاع الأبناء في البحث عن التجارب لاكتساب خبراتهم بأنفسهم من خلال الجرائد والمجلات، أو شبكة "الإنترنت" والفضائيات، أو غير ذلك من العلاقات.
هذا واقع المسلمين اليوم، ما عدا أهل الحق من أهل السنة المرحومين – جعلنا الله وإياكم منهم-. وفي وسط هذا الواقع المرير تبدو المشاهد المؤلمة للباحثين عن المنهج الحق وعن دين الإسلام الأصيل، وعن جنة الدنيا التي رسمها الإسلام وسط هذه الظلمة الكالحة ينتظرون من يمد لهم يداً، أو يقدم لهم عونا.
إن الحاجة الملحة الآن تكمن في إعادة دور الأب في الأسرة المسلمة إلى القيادة والصدارة؛ ليتولى مهمته في القوامة على الزوجة والتربية للأولاد، وإعادة دور المرأة في البيت كزوجة تعمل على حسن التبعّل لزوجها بإخلاص وتفانٍ، وتتطلع بصدق إلى رضا الله ونعيم الآخرة بعيداً عن زينة الدنيا الفانية، فتعمل على إعادة صورة البيت كمملكة حقيقية لها، تلبس تاج العروس لزوجها، وتاج الأمومة لأولادها، وتاج القدوة لأهلها وجيرانها.
إننا بحاجة حقيقية للتخلص من النمط الغربي في الحياة الذي جعل من أفراد البيت سلاطين؛ كل فرد منهم يعيش في جزيرة مستقلة، تعنيه نفسه فحسب، وكأننا يوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه (*) وَأُمِّهِ وَأَبِيه (*) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [سورة عبس: 34-36]
إننا بحاجة إلى التخلص من (توصيل الطلبات إلى المنازل)؛ لتصل الأم إلى الأب، ويصل الأولاد إلى الأب والأم، ويصل الجميع إلى رضا الله والجنة. وهنا تكمن البداية الحقيقية للعودة إلى التمكين.
خامساً
: ضبط العلاقات الاجتماعية:
فنتيجة الانفصال المريع بين العلم والعمل، ونتيجة الغزو الفكري والثقافي في المناهج ووسائل الإعلام، ونتيجة الإعجاب والانبهار بما وصل إليه الغرب من التقدم العلمي والتكنولوجي، فتن المسلمون بأنماط الحياة الغربية، فمُزّقت العلاقات، وانفصمت الروابط بين المسلمين، وعاش كل إنسان لشهوته وهواه، وصار مبدأ المصلحة والحرص على إسعاد النفس ولو على حساب الآخرين هو المبدأ المعمول به هذه الأيام. وبذلك غاب جو الألفة في العلاقات، والمودة الحلوة بين الناس، وغابت صورة المجتمع الإسلامي الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم: »ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (صحيح مسلم: 2586)
وانظر إلى قوله تصل إلى أن: هذا المعنى الذهني وهذه الأحاسيس القلبية زادت وتمثلت في كينونة المسلم حتى ظهرت واضحة، يراها المسلم بعينيه، ويلمسها بيديه. وحريّ بنا أن نتحسر على غياب هذه المعاني، ونظل نتمنى ونشتهي عودتها إلى الحياة، فإنها والله سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة.
ولكن كيف السبيل؟ هذا هو السؤال..
كيف السبيل إلى تحقيق هذه المعاني الخمسة السابقة؟
أبنائي
.. يا أمل الأمة.. إليكم هذا
العلاج المركز
[size=21]إننا بحاجة إلى خمسة مقابل تلك الخمسة:
أولاً[/size]
:
تربية جادة في محاضن تربوية دائمة تذوب فيها طائفة معينة، فينصهرون في بوتقة التربية الإسلامية الصحيحة؛ لإعادة تشكيل الفكر والعقل والجوارح، فتخرج هذه الفئة المرباة ربانيا؛ لتكوّن الأعمدة الراسخة التي يقوم عليها البناء.
ثانيًا
:
نحتاج للقيام بالتربية الربانية التي أشرنا إليها في العنصر الأول إلى جماعة المربين الذين يتحملون هذه المهمة برسوخ في العلم وسعة في الفهم، وعلو في الهمة، واتساع في الخبرة، وإحاطة بالواقع ومشكلاته، وإصرار وتصميم على الوصول بفئة معينة إلى حال الصحابة علما وفقها وإيمانا وحكمة وبذلا وتضحية وثباتا وصبرا.
ثالثاً
:
انتقاء واختبار وفرز هذه المجموعة التي تصلح كمادة خام لصناعة الرجال الصالحين. ويشترط لهؤلاء المصطفين لهذه المهمة الاستعداد الفطري للنبوغ، فينقى الأكفاء النابغون النبهاء ذوو الميول الفطرية للقيادة، وعلامات النبوغ تظهر على الطفل منذ صغره، وتبقى اليد التي توجهه وتصنعه وتشكله.
وقديماً قلت: إن قلب الطفل السليم ليس إناء نريد أن نملأه، ولكنه موقد نريد أن نشغله. واختيار هذه الكفاءات والنوابغ هو أهم عمل في هذه المرحلة، ثم صيانتهم عن العوامل الخارجية المفسدة، وتكثيف صهرهم وتشكيلهم في المحاضن كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين منع الصحابة من القراءة في ثقافات الآخرين، ومنعهم حتى من تدوين كلامه، فاقتصر في صناعتهم وتربيتهم على القرآن الكريم، وصياغته هو لشخصياتهم، وتشكيل قلوبهم.
رابعاً
:
اعتماد المنهج الذي عليه تصنع وتشكّل هذه الفئة، وإننا – في هذا الصدد – بحاجة إلى منهج متكامل متعدد المراحل يكون شاملا لكل أنواع الثقافات والعلوم الشرعية والدينية والعلمية الدنيوية، يكتبه بعناية بالغة ودقة متناهية مجموعة من الأخصائيين والمتخصصين المتفرغين والمتفهمين لمثل هذه الشؤون.
وقد ذكر لي قريباً رجل من المهتمين بالتربية في دولة إنجلترا أنهم غيروا المناهج هناك مائة وثلاث مرات، ونحن لسنا على استعداد لهذا؛ لأن المنهج موجود، وأصوله واضحة وهو مجرب بيقين؛ إنه يحتاج فقط إلى إعادة اكتشافه، وإظهاره وعرضه العرض الذي يليق به.
خامساً
:
التعاون الجاد المثمر بين جميع المسلمين؛ لإنجاح هذه الركيزة الجامعة التي تكون عمد بناء المستقبل.
يا ابن الإسلام
..
إن التمكين للإسلام مرة أخرى وإعادة هيمنته على الحياة من جديد تقف في طريقه عقبات كثيرة ويحتاج إلى جهد وجهاد شاق طويل. ولا يحملنك كلامي هذا على اليأس أو حتى استصعاب الأمر؛ فإن الله سبحانه إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه.
نعم - ولدي الحبيب - إن التربية الإسلامية هي البناء الجاد للنفوس والقلوب، وهي بناء متين. وإن هذا البناء في حاجة إلى حماية ووقاية من الذين يكرهون الاستقرار والعدل، ويرفضون الحق، ويريدون الانقلاب والجري وراء شهواتهم.
إذا فلا بد من صناعة خاصة لأولئك الذين يحرسون هذه الأمانة، ويؤسسون هذا البناء،ويسهرون على استمراره.
ولابد من نضج تربوي كامل حتى يقدروا على الصمود والعطاء الدائم. إن دعوى الإيمان في ساعة الرخاء والنعيم السهل لا تكلف صاحبها كثيراً، ولكن حقيقة الإيمان تبين لصاحبها عند الشدائد وفي أوقات المحن، فالبلاء يُظهر حقيقة الإيمان، ويكشف عن معادن الرجال.
قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْـتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكَمْ وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ}. وقال جل شأنه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
لذلك – يا ابن الإسلام – أقول لك: اعلم أن إقامة هذا البناء تحتاج إلى أخلاقيات الإسلام الشاملة في العسر واليسر والرخاء. فما أيسر الخلق الحسن في الرخاء؛ لأنه لا يكلف صاحبه شيئاً إلا بعض المجاملات أو الشكليات التي تجعل الإنسان بعدها غاية في حسن الخلق.
وأحياناً يخدع الإنسان نفسه، فيتصور- من خلال هذه الحركات والشكليات التي يقوم بها- أنه فعلا صادق ومتخلق بأخلاق الإسلام ومتأدب بآدابه، كل هذا في السعة والرخاء؛ فإذا جاءت الشدائد والكروب، فهل هذا الإنسان يظل على استعداد للبذل والعطاء في وقت الضيق كما كان يفعل في وقت الرخاء؟ هل يقدر على احتمال أخطاء غيره ويعفو عنهم ويسامحهم؟ أم ينتقم لنفسه ويغضب لذاته ويتحامل على غيره؟؟
انظر إلى تاريخ الرجال الذين رباهم الإسلام؛ ماذا كان شأنهم حين مكّن الله لهم في الأرض، كانوا رحمة، بل رحمات، كانوا براً وعدلا، سعدت بهم الإنسانية في الشدة وفي الرخاء؛ لأن منهج الإسلام منهج فريد مميز لا يشبه شيئا على وجه الأرض مما يصنعه البشر؛ فهو يتميز بخصائص الشمول والتكامل والتوازن، ولا عجب في ذلك فهو النظام الرباني: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً} [سورة البقرة: 208]
إنه يأخذ الكائن البشري كله، يأخذه على ما هو عليه بفطرته التي خلقه الله عليها، لا يعاكس شيئاً من هذه الفطرة، ولا يفرض عليها شيئاً ليس في تركيبها الأصيل، ويتناول هذه الفطرة بدقة بالغة؛ فيعالج كل صفة منها وكل تصرف ينبع عن هذه الصفة، فيضبطها وفق منهجه الصحيح.
وحين يستعرض الإنسان وسائل الإسلام في التربية يعجب للدقة العجيبة التي يتناول بها الكائن البشري بالإصلاح والتهذيب، هذه الدقة التي تتناول كل جزئية على حدة كأنها متفرغة لها ليس في حسابها سواها، ثم الشمول على هذا المستوى من الدقة، الشمول الذي يتناول الجزئيات جميعاً وفي وقت واحد. إنها دقة معجزة لا تصدر إلا عن الخالق المدبر العظيم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الروم:30].
فالإسلام دين الفطرة.. وما من نظام يعالج الفطرة كما يعالجها الإسلام، أو يستخلص من هذه الفطرة بعد تهذيبها وضبط إيقاعاتها ما يستخلصه الإسلام.
ولدي يا ابن الإسلام
..
حتى تستقيم تربيتنا على منهج صحيح، ينبغي أن نراعي مبدأ التكامل والتوازن؛ فلا نعنى بجانب مهما عظم في نظرنا على حساب جانب آخر؛ فإن ذلك لا بد أن يؤدي إلى اعوجاج وانحراف في شخصيتنا.
وإذا كانت العبادة الخالصة لله تعالى جانبا هاماً بل الجانب الأهم في حياتنا؛ فينبغي تنميتها بإحسان توحيد الله وتعظيمه، وتحسين أداء شعائر العبادات، واستشعار المسؤولية بين يدي الله في كل قول وعمل، والاهتداء بهدي النبوة في كل شأن من الشؤون.
ومع تنمية هذا الجانب الخطير يجب أن ننمي في نفس الوقت الاتصال الواعي بالمجتمع الذي نعيش فيه،لتتربى كما ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه،
وتكون حقا ابن الإسلام.
وصلى الله عليه وسلم وبارك على رسول الله وآله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين