في مثل هذه الأيام، ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان,تحديداً في السنة العاشرة من الهجرة، حج نبينا الحبيب محمدحجة الوداع. والحقيقة أيها الأخوة أن الحديث عن رسول الله حبيب إلى كل قلب مسلم، مؤمن بالله تعالى. لماذا؟لأن له منة عظيمة على كل مسلم، وفضلاً كبيراً على كل مؤمن، إذ به أنقذنا الله تعالى من الكفر إلى الإيمان والإسلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبسنته عرفنا طاعة ربنا وعبادته، وعرفنا تفصيل سائر شعائر الإسلام لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
إن البرية يوم مبعث أحمـد نظـر الإله لها فبـدل حالهـا
بل كـرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
في هذه الحجة المباركة، وقف وخطب في المسلمين خطبة الوداع. إن هذه الخطبة التي ألقاها لا تستغرق إلا بضع دقائق، ولكنها أهم من خطب قد تستغرق ساعات. ولا عجب في ذلك فصاحبها عليه الصلاة والسلام، أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم، واختصرت له المعاني اختصاراً. فكان مما قاله : ((يا أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً))[3].
سبحان الله: وكأنه كان يشعر بدنو أجله ولقاء ربه، لهذا كان حديثه حديث مودع محب مخلص ناصح، يريد الخير لأمته من بعده.
ثم قال : ((أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا))[4].
نعم أعلنهاصريحة: نعم هذه هي حقوق الإنسان الحقيقية، وليست المزيفة أو المزدوجة، دم المسلم حرام، أي مسلم إلا بالحق وإلا فمن قتل مسلماً فقد قال الله فيه وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
ومال المسلم أيضاً حرام. أي مال مسلم، ولو كان شيئاً يسيراً فقد قال : ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق. فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله: وإن كان شيئاً يسيراً قال: وإن كان قضيباً من أراك)).
فأين هم الذين يعتدون على المسلمين فيسرقونهم أو ينهونهم، أو حتى يستولون على أجورهم بغير حق، أين هم عن هذا التهديد والوعيد، وما الذي سيفعلونه عندما يفضحهم الله يوم القيامة.
ثم قال : ((يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى)).
نعم مرة أخرى، يتحدث عن حقوق الإنسان، وينبه إلى أن ميزان الحق الذي يوزن به الناس يوم القيامة هو ميزان التقوى، لا ميزان الحسب والنسب والجاه والمال والشهرة، فكل هذا لا قيمة له في الإسلام. والنعرات الجاهلية والتفاخر بها تعتبر من أقصر الطرق الموصلة إلى النار والعياذ بالله.
والحقيقة يوجد من الناس اليوم من لا يزال يتمسك بالفخر بالأحساب والأنساب، ومن أجلها يوالي ويعادي، ويحب ويكره، بل ويزوج ويتزوج من أجلها، وأمثال هؤلاء الذين يقدمون الجنس أو اللغة أو الدم على الدين، أمثال هؤلاء قال نبيه : ((إن الله قد أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء (كبرها وفخرها)، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون (أحقر) على الله من الجعلان (حيوان الخنفساء) التي تدفع بأنفها النتن))[5] [البراز]. فهل يعتبر هؤلاء ويعرفوا أنه لا قيمة للإنسان إلا بالإسلام، وأنه من غير الإسلام لا يساوي شيئاً.
ثم قال : ((ألا كل شي من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ما أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)).
والذي ينبه عليه هنا أن كل ما كانت الجاهلية تفخر به وتتمسك من تقاليد وعادات واستعباد للناس، والحكم بينهم بشرائع باطلة، كل ذلك أخبر أنه موضوع تحت قدميه وأنه قد بطل ومات وللأسف فهناك من الناس من يصر على أن يضع هذه الأغلال على رأسه وفوق عينه، فإذا اصطدمت عاداتهم وتقاليدهم مع الدين، قدموا عاداتهم وتقاليدهم وأخروا الدين. وإذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله، فيما بينهم فضلوا التحاكم إلى قوانينهم وأعرافهم، فهل هؤلاء مسلمون يقول الله فيهم وفي أمثالهم: وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50].
وذكر رسول الله في خطبته الربا الذي حرمه بأمر من ربه، ويكفي في الربا أنه يضخم ثروات الأغنياء على حساب الفقراء. وهذا ما نراه الآن فالدول المسماة بالدول الكبرى استغلت الربا في استعباد الدول الفقيرة، وأسرها، حتى تبقى مأسورة لها على مدى الأيام، نعم إن الحضارة المادية التي تقود العالم اليوم، لا تعرف إلا الحاضر والربح العاجل أما قوله تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فهو حديث خرافة عندهم. لهذا فالاقتصاد العالمي القائم على الربا لن يعمر طويلاً بل سينهار والأيام ستظهر هذا الأمر.
ونفس الكلام على مستوى الأفراد، فالبعض يتعامل بالربا ولا يبالي. هل سأل عن رأي الشرع في ذلك، هل عرف حكم الإسلام في تعاملاته المالية، قليل من يفعل هذا رغم أن الأمر لا يحتاج إلى توضيح أكثر من قوله : ((إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام))[6] وقوله: ((درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية))[7] هل هناك ما هو أكثر من هذا الترهيب والوعيد، ولكن فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلاْبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ [الحج:46].
ثم قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم (أسيرات) ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فادعو الله خيرا واستوصوا بهن)). الله أكبر: انظروا إلى تكريم الرسول للمرأة، بعد أن كانت لا قيمة لها في الجاهلية، بل كانت رمزاً للشر والخزي والعار، فأكرمها الإسلام بنتاً وأختاً وزوجة وأماً. فأكرمها بنتاً وأختاً فقال : ((ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له سداً من النار))[8] وعنها زوجة يقول : ((خياركم خيركم لأهله)) ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))[9] وعنها أماً قال : ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم)) ثلاث مرات[10]، وقال لرجل أتى للجهاد وترك أمه قال له: ((الزم رجلها، فثم الجنة)) وقال لآخر: ((الزمها (أي أمك) فإن الجنة تحت أقدامها))[11].
وليس هذا فقط، بل إن المرأة في ظل الإسلام كالرجل في الثواب والعقاب؟ومطلق المسؤولية والجزاء. وجعل لها حق البيع والشراء والتملك، بل وجعلت النفقة والكفالة على أبيها أو ولي أمرها إن كانت بكراً أو ثيباً، وعلى زوجها إن كانت زوجة، حتى ولو كانت من الثريات، وغير ذلك كثير.
لكن الكثير يتجاهلون هذه الوصايا العظيمة ولا يعملون بها. بل إن بعض الرجال لا يزال يتعامل مع النساء بعقلية الجاهلين القدامى، لا ترى المرأة منه إلا الظلم والإهانة والتحقير لها.
والمصيبة العظمى أن البعض من النساء يعتقدن أن هذا يحث لهن بسبب الدين، وهذا والله افتراء عظيم، فما من دين أنصف المرأة كما أنصفها الإسلام.
فلقد عهدنا المرأة أيام كان الإسلام مزدهراً. عهدناها فقيهة محدثة كأم المؤمنين عائشة، ومربية فاضلة كأسماء، وشاعرة مجيدة كالخنساء. ومجاهدة تلطم وجه الشرك وتصدع أعوان البغي كخولة. هكذا كانت المرأة المسلمة وما نزلت قيمتها وما أهبت وما ضيعت حقوقها إلا عندما قيل لها: تحرري وتطوري: إذا أردت الحضارة فاتركي الدين، واختلطي بالرجال وارفعي الحجاب، فضاعت المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين، فاختلطت وغنت ورقصت وتبرجت فصارت طعماً للذئاب الجائعة، والكلاب المفترسة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.