الدنيا دار بلاء
الأحوال لا تثبت على حال، والسعيد من لازم التقوى، وإن افتقر أغنته، وإن ابتلي جملته، فلازم التقوى في كل حال، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، ولا في المرض إلا العافية، ولا في الفقر إلى الغنى،والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُقدّر الله لا حيلة في تحصيله، والرضا والتوكل يهونان المصائب، والله هو له الأمر والتدبير،وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وهو أرحم به من الأم بولدها,ومن رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذمومٌ، ومع هذا فلا خروج عما قُدّر عليك.ولقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم،وقسم بينهم معايشهم وأموالهم،وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. والإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان، وما في الأرض من حركة أو سكون إلا بمشيئة الله وإرادته، وما في الكون كائن إلابتقدير الله وإيجاده.
والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارضُ والمحنُ فيها هي كالحر والبرد لا بد للعبد منها، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلأمَوَالِ وَٱلأنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:155]، والمصائب محن يتبين بها الصادق من الكاذب، أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:20]، ولا بد من حصول الألم لكل نفس، سواء آمنت أم كفرت، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار،والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن. فهذا نبي الله آدم عليه السلام يُخرج من الجنة ويبتلى في الأرض ويقتل أحد ولديه الآخر وأي بلاء أشد من هذا.فأذا كان الأنبياء يبتلون فما دونهم أولى. فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها،ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان وأودت بصاحبها إلى سخط الله والوقوع بالكفر.والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، يخفف المصاب على نفسه بوعد الأجر وتسهيل الأمر، والصابرون مجزيون بخير الثواب، وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96] فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، بالابتلاء يعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءٌ؟ قال: ((الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)) رواه البخاري.وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل،الدنيا لم تصفُ لأحد، يقول المصطفى : ((من يرد الله به خيراً يصب منه))رواه البخاري.فتشاغل بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل،وتلمّح سرعة زوال بليتك تهن، ولا تقنط فتُخذل، وتذكر كثرة نعم الله عليك، وادفع الحزن بالرضا بمحتوم القضا، فطول الليل وإن تناهى فالصبح له انفلاج، وآخر الهم أول الفرج، والدهر لا يبقى على حال، بل كل أمر بعده أمر، وما من شدة إلا ستهون،ولا تيأس وإن تضايقت الكروب،فلن يغلب عسر يسرين، واضرع إلى الله يزهو نحوك الفرج، وما تجرّع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه المخرج، يعقوب عليه السلام لما فقد ولداً وطال عليه الأمد، لم ييأس من الفرج، ولما أُخد ولده الآخر لم ينقطع أمله من الواحد الأحد، بل قال: عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].
وربنا تعالى وحده له الحمد، وإليه المشتكى، فإذا تكالبت عليك الأيام، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب، فلا ترجُ إلا الله في رفع مصيبتك ودفع بليتك، وإذا ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، قلب وجهك في ظلمات الليل في السماء محل البركات ومهبط الرحمات ومسكن الملائكة الكرام، وارفع أكف الضراعة إلى الله الذي يعلم بك ويسمعك وأنت في أي مكان وهو سبحانه موجود بلا مكان لأنه كان قبل المكان والزمان، وناد الكريم أن يفرج كربك، ويسهل أمرك، وإذا قوي الرجاء، وجمع القلب في الدعاء قوي رجاء القبول، أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء [النمل:62]، وتوكل على الله القدير، وسلِّم الأمرلله،واسأله الفرج،ولا تستطيل زمن البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء، متعبَّد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء، فالفرج قريب، وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:107]، وهو الفعال لما يريد اصبر على بلائه وحكمه، واستسلم لأمره. قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].