بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
.. أما بعد ..
ما أعظم القرآن .. وأجل حروفه .. وأسمى معانيه
القرآن الكريم بليغ كأرقى ما تكون البلاغة .. لا يخلق من كثرة الرد وهذه مَيزةٌ غاية في السمو .. وخِصِّيصةٌ في منتهى الجلالة .. فأجمل القصائد والمقطوعات الأدبية لوقرأتها مرة ومرتين وخمسا وعشرا لمللتها ثم كانت قراءتها بعد ذلك ضربا من العذاب فالملل مر المذاق .. أما كتاب الله تعالى فلا يخلق ولا يمل .. تأمل قصص القرآن كقصة يوسف عليه السلام .. كم مرة قرأتها ومع ذلك ألا تجد في كل مرة معنى جديدا وشوقا يستثيرك لإكمال القصة رغم حفظك للسورة عن ظهر قلب !
أو تأمل إن شئت قصة كليم الله موسى عليه السلام .. فكم وردت من مرة بأساليب مختلفة وبأكثر من سياق .. وفي كل مرة تجد معنى جديدا لم تجده في المرة التي سبقتها ..
تلك كانت تقدمة لفائدة جليلة القدر عالية المكانة تبوأت في سورة الشعراء موضعا .. :
في سورة الشعراء جاءت قصص الأنبياء متتالية ابتداء بقصة موسى ثم إبراهيم ثم نوح ثم هود ثم صالح ثم لوط وحتى قصة شعيب عليهم صلوات الله وسلامه ..
وفي مطلع كل قصة تجد هذا المطلع المعجز المتشابه في لفظه : " كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون "ثم " كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون " ثم " كذبت ثمود المرسلين إذقال لهم أخوهم صالح ألا تتقون " ثم " كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون "
ولما جاء الحديث عن نبي الله شعيب عليه السلام وقومه أهل مدين وهم أصحاب الأيكة قال سبحانه :
" كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون "
فلم يقل أخوهم ... !؟
مع كونه أخا لهم في النسب كما دلت الآيات الأخرى : " وإلى مدين أخاهم شعيبا "
فما السر المعجز وما المعنى المراد في أجل قبس وأشرف بيان !!
بعد شيء من البحث وقفت على هذا المعنى العميق في سبب نفي الأخوة عن شعيب لأصحاب الأيكة :
لما نسب الله تعالى شعيبا لقومه وهم مدين في الآيات الأخرى أثبت له الأخوة وهي أخوة النسب وهي التي أثبتها لباقي الأنبياء في سورة الشعراء .. غير شعيب فإنه سمى قومه فيها أصحاب الأيكة والأيكة شجرة كانوا يعبدونها من دون الله فلما نسبهم إلى الكفر والشرك نفى عنه أخوتهم ولا كرامة في تلك الأخوة
ودونكم شيء مما خطه إمام التفسير العلم العلامة ابن كثير في هذا السياق :
"هؤلاء -أعني أصحاب الأيكة -هم أهل مدين على الصحيح. وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة. وقيل: شجر ملتف كالغَيضة، كانوا يعبدونها؛ فلهذا لما قال: كذب أصحاب الأيكة المرسلين، لم يقل: "إذ قال لهم أخوهم شعيب"، وإنما قال: { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ، فقطع نسبة الأخوة بينهم؛ للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبا. ومن الناس مَنْ لم يتفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيبًا عليه السلام ، بعثه الله إلى أمتين، ومنهم مَنْ قال: ثلاث أمم..."