أربعة أركان
ركن التصوّف الأول هو {المعرفة اللدنية}، إذ قدم التيار الصوفي نموذجاً خاصاً في المعرفة الإسلامية لا يقتنع بالتجريب، لكن يؤمن بالحدس. فإذا كان الفلاسفة يستخدمون مناهج العقل في التوصل إلى حقائق الأشياء، والمتكلمون يستخدمون العقل في إثبات العقيدة الدينية أو تفنيد حملات خصومهم وحجج أعدائهم، والعلماء يستخدمون مناهج الملاحظة والتجربة في معرفة كنه الأشياء، فإن الصوفية يستخدمون {الكشف} أو الذوق الصوفي طريقاً إلى إدراك الحقائق المستترة وراء المحسوس، وهذا الكشف أشبه بومضة سريعة الزوال ويأتي بعد رياضة بدنية ومعاناة نفسية.
والمعرفة الصوفية مباشرة لا تحتاج إلى وسائط من مقدمات أو قضايا أو براهين وهي فوق العقل لا يملكها إلا من سلك سبيل التصوف، وقد أطلق أبو حامد الغزالي على عليها تسمية {علم الوراثة} وتمثل لديه الفقه في الدين وقال: {لقد تميز الصوفية عن سائر العلماء بعلوم زائدة هي علوم الوراثة... فمن زهد في الدنيا اتسع وادي قلبه فسالت فيه مياه العلوم واجتمعت وصارت أوعية للعلوم}.
وهذه المعرفة {لا يمكن الوصول إليها بالتعلم بل بالذوق والحال، وهو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه فيفرقون بواسطته بين الحق والباطل من دون أن يعتمدوا في ذلك التفريق على كتاب أو غيره}. وقارن الغزالي بين المعرفة القائمة على {الحس} أو {العقل} والمعرفة الحدسية وانتهى إلى القول بأن المعرفة الحدسية تنتج ما لا يمكن أن تعرفه الحواس ويعجز عنه العقل، خصوصاً في الأمور الغيبية.
عموماً، نجد أن المعرفة الصوفية تختزل المعرفة من كونها مجموعة من خبرات وتجارب وأساليب تتشكّل من خليط متراكم من المعلومات والتقنيات والنظريات والأيديولوجيات والأخلاق لتتحوّل إلى علم باطني كشفي لا يخضع لبرهان العقل، ويرى أن ما لا يعتمد على الحدس فهو غارق في النقصان أو على حد قول القشيري {لو أن رجلاً جمع العلوم كلها وصحب طوائف الناس كافة لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح، ومن لم يأخذ أدبه من أستاذه يريه عيوب أعماله ورعونة نفسه لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات}.
ويتضح هذا جلياً في رد أبي اليزيد البسطامي الصوفي الكبير الذي أطلق عليه لقب سلطان العارفين (ت:261هـ) على بعض العلماء الذين طعنوا في كلامه حين قال لمن اتهمه بأن كلامه خارج العلم: أكل العلم قد بلغت؟ فقال: {لا...}، فرد البسطامي قائلاً: {هذا من العلم في النصف الذي لم يبلغك}.
والركن الثاني هو الزهد، الذي يعد بمثابة أب التصوّف الشرعي، إذ من غير الممكن أن يوجد التصوف إلا إذا سبقته حركة الزهد، لأنه المعرفة الضرورية التي لا بد منها لقيام التصوف واستمراره. والزهد يعني في مجمله عدم إرادة الشيء وعدم قصده والانشغال به أو طلبه. ولقد انتشر الزهد بسبب السياسة فالخلافات التي نشبت بين الفرق الإسلامية والولاة الإسلاميين من جهة والتفاوت الاجتماعي الذي حدث بعد انقضاء الخلافة الراشدة وازدادت حدته في العصر العباسي من جهة ثانية دفع بعض المسلمين إلى الميل إلى التصوف والعزلة والزهد في الدنيا.
والزهد يشكّل قيماً سياسية متعارضة بعضها سلبي وبعضها إيجابي، فالزهد في الدنيا يتضمن الزهد في السياسة باعتبارها ممارسة دنيوية، ذلك مثل الموقف الذي اتخذه الشيخ عبد الوهاب الشعراني وهو من كبار المتصوفة من العمل السياسي إذ قال: {مما أنعم الله به على حمايتي من أن أكون قاضياً أو حاكماً أو شاهداً لخفاء أغلب القضايا على الناس من الحكام}. وباب القضاء والحكم بين الناس بالشريعة فضلاً عن السياسة من أخطر الأمور}. ويبرر الشعراني في موقف آخر سلبيته إزاء الحكام موضحاً: {مما أنعم الله تعالى به عليّ عدم وقوفي على حاكم إذا نازعني في بيتي أو في النظر على زاويتي أو في رزقي، بل أترك ذلك له لأن الدنيا أهون عندي من أن أقف لأجلها على حاكم وأستحي بحمد الله تعالى أن أكذب مسلماً في ما يدعيه عليَّ منها، فأنا تساوت عندي الأماكن... فمن نازعك في دينك فنازعه ومن نازعك في دنياك فألقها على نحره}. وفي هذا الشأن قال السري السقطي وهو أحد كبار المتصوفة الأوائل: {إن الله تعالى سلب الدنيا عن أوليائه وحماها عن أصفيائه وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضها لهم}. وأورد القشيري في رسالته بعض تعريفات للزهد تفيد بإيثار الانسحاب من الدنيا وأمورها مثل قوله: {الزهد سلو القلب عن الأسباب ونفض الأيدي عن الأملاك}، و'عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف} ويبلغ التقشف ذروته حينما يقول {لو كان الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره}.
وعلى هذا الأساس يكون الفقر هو طريق الزاهدين فهو أمر ضروري إذا أراد السالك السير في الطريق والوصول إلى منتهاه، لأن المرء إذا شغل نفسه بزوج أو مسكن وملبس أو مال يكدسه... سيطرت هذه الأشياء المادية على ذهنه وحجبت نفسه عن الخير الحقيقي الثابت وهو الانشغال بالآخرة. إلا أن بعض المتصوفة يرى أن الزهد لا يعني التجرد من الدنيا دائماً، وإنما ألا تستعبد الدنيا الإنسان فقد كان الكثير من المتصوفين أغنياء يملكون الثروات ويتصرفون فيها كوكلاء لله عليها وكثيراً ما يدعون الله بأن يغنيهم ولا يكتفون بذلك، بل يدعون أن يجعلهم ربهم سبباً لغنى أوليائه.
وعلى النقيض من ذلك فإن الزهد قد يخلف قيماً سياسية إيجابية في اتجاه الانخراط والمشاركة ومقاومة التسلط والفساد، فالزهد في الماديات من ثروة أو منصب يعني عدم الخضوع للسلطة التي توزّع الموارد والمناصب وتملك أدوات تضييق أرزاق معارضيها، فالزاهد على هذا الأساس أكثر قدرة من غيره على المقاومة والتمرد ضد الطغيان لأنه مستغني عن الشيء الذي يهيمن به السلطان على الناس، وفي هذا الشأن يقول الشيخ الشعراني {لقد رزقني الله تعالى القناعة فلو أنني وجدت كسرة يابسة قنعت بها، ومن كان كذلك لا يحتاج إلى مال السلطان} .
والزهد يجرم كل عمل من التأثير والإيجابية نظراً إلى أن غرس الزهد القائم على اعتبار أن الدنيا بلاء مصبوب كأساس للتربية الحركية يجعل المسلم الملتزم في جماعة يشعر بالضيق من الحياة، فالرهبة من المعاصي تسيطر عليه والحرام يطارده في كل مكان ولا يكاد يطمئن إلى عمل سوى الصلاة والذكر والاعتكاف وما شابه ذلك من شعائر، وما عدا ذلك فهو بلاء أو طريق إلى بلاء وهذا المنطق التربوي لا يدفع في نهايته إلى إبداع أو تفوق. والزهد في الثروة والمنصب قاد إلى الانسحاب غالباً ولم يقد إلى الانخراط والمشاركة.
أما الركن الثالث فهو الولاية، التي تأخذ عند الصوفية معنى اصطلاحياً خاصاً تتميز به عما يفهمه الآخرون عنها، فهي تنطوي على شكل رمزي يشبه فكرة {الإمامة} عند الشيعة فالولي الصوفي والإمام الشيعي في نظر أتباعهما معصومان على حد سواء من الخطأ، ولهما حق العلم الباطن الذي يأتي إلهاماً من الله تعالى، ولهما حق الوصاية على هؤلاء الأتباع لذا تبقى السلطة في أهليهما وتنتقل وراثياً بينهم.
ويرى الصوفية أن العالم يدوم بقاؤه بفضل تدخل طبقة من رجال الغيب {الأولياء} المستورين، وهم محدودو العدد كلما قبض منهم واحد خلفه غيره، وهم ثلاثمائة من النقباء وأربعون من الأبدال وسبعة أمناء وأربعة عمد ثم القطب وهو {الغوث}. فالولي بذلك له قدرة مطلقة تبدأ من أصغر الأمور حتى حفظ العالم وهي التي يطلق عليها الصوفية {الكرامة} التي تؤسس في جانب كبير منها على قاعدة المفارقة القائمة على الخيال والأسطورة.
وقد جمع النبهاني (1265-1350هـ) في كتابه {جامع كرامات الأولياء} كرامات أكثر من ألف وخمسمائة شيخ وهي تحوي أعمالاً خارقة للعادة مثل إحياء الأموات وإماتة الأحياء وشفاء المصابين وطي الزمان والمكان ومحادثة الجمادات والحيوانات والإطلاع على كنوز الأرض وذخائرها... الخ.
والركن الرابع هو المحبة، التي تبدأ عند المتصوفة من محبة الله سبحانه وتعالى، وتقتضي فعل المأمور وترك المحظور، وتمتد إلى محبة المتصوفة لبعضهم البعض، التي يحرصون عليها أشد الحرص، ومحبتهم للمخلوقات كافة لأنها من صنع {الحبيب} وهو الله تعالى. وتؤدي المحبة إلى شيوع قيمة التسامح بين المريدين وبينهم وبين الآخرين، وينعت المريد أخاه بالحبيب فضلاً عن {الفقير} و'الأخ}، ويقول عن أصدقائه في الطريق إنهم {الأحباب} ويرتقي حرص المريد على مشاعر إخوانه إلى درجة تفوق حرصه على مشاعر شيخه، لأنه يؤمن بأن صدر الشيخ أكثر سعة، وعقله أرحب فهماً، لمريديه وأحوالهم ولذا يردد بعض مريدي الحامدية الشاذلية دائماً القول التالي: {مكسور قلب الشيخ يرجى جبره... لكن مكسور الأحبة لا يجبر}.