معنى التصوف ومبناه
التصوف أحد المفاهيم الغامضة والمركبة التي اختلف حولها الباحثون والعلماء، فلا تكاد تذكر كلمة تصوف أو متصوفة حتى تثار حولها علامات الاستفهام، متى ظهرت؟ وإلى أي الأديان ترجع؟ وماذا تعني؟... والإجابة عن هذه الأسئلة تنوعت وتضاربت طبقاً لمذاهب العلماء والفقهاء ومشاربهم وظروفهم، ومن يطالع الكتابات التي تناولت التصوف ويدقق فيها يجد نفسه أمام مئات التعريفات.
وعلى رغم كثافة ما طرح في هذا الشأن إلا أنه يدور غالباً حول محاور عدة، أولها: تعريفات تعتمد على الاشتقاق اللغوي وأصل المفهوم، وثانيها: تعريفات ذات طابع قيمي فلسفي، وثالثها: تعريفات تركز على سلوك المتصوفة.
وأحد التعريفات اللغوية ما أورده ابن خلدون في المقدمة، والأصفهاني في {حلية الأولياء}، فقد جمعا أطراف أصل التصوّف الاشتقافي في أربعة أشياء، فهو يرجع في نظريهما إلى {الصوفانة} وهي البقلة الصغيرة وهذا يعني من الناحية الحياتية التسليم بما صنعه الله وخلقه، أو يرجع إلى قبيلة {صوفة} التي كانت تقوم على خدمة الكعبة، أما الاشتقاق اللغوي العربي الأخير وهو الغالب فيرجع التصوف إلى {الصوف: شعر الضأن، وكان لباساً بسيطاً ورخيصاً وقت ظهور المتصوفة، ويرى المتصوفون أنه يذلل النفس الشاردة ويكسر كبرها لتلتزم المذلة والمهانة وتعتاد القناعة.
فضلاً عن ذلك ثمة من يرجع كلمة {تصوف إلى الكلمة اليونانية {سوفوس} (Sophie). وكلمة تصوف لم تذكر على ألسنة الشعراء والخطباء قبل الإسلام ولم تجر على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولم ترد في القرآن الكريم. ولم يظهر اللفظ مفرداً إلا في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي حين نُعت به عالم الكيمياء المشهور جابر بن حيان، وكان له في الزهد مذهب خاص. أما ظهور اللفظ في صيغة الجمع {الصوفية} فيرجع إلى عام 814م/199هـ حين أطلق على أحد مذاهب التصوف الإسلامي يكاد يكون شيعياً، نشأ في الكوفة وكان عبدك الصوفي آخر أئمته، وهو من القائلين بأن الإمامة بالتعيين وتوفي في بغداد عام 825/210هـ، وقد كانت الكلمة في أول أمرها مقتصرة على متصوفي الكوفة إلا أنها امتدت بعد 50 عاماً لتشمل جميع متصوفة العراق ولم تلبث الكلمة أن امتد استعمالها عبر الزمان لتطلق على أهل الباطن مثلما هي الحال راهناً.
أما التعريفات ذات الطابع القيمي الفلسفي، فترى أن التصوف نزوع فطري في الإنسان نحو التسامي والكمال والمعرفة عن طريق الكشف الروحي أو العلم اليقيني الناشئين عن الإلهام الإلهي والنظر العقلي والرياضة النفسية وبعض الدلائل الحسية، وطريقه المسلكي هو حجب النفس الموجبة للنقص بالمجاهدة بغية الكمال. وفي هذا الاتجاه ثمة عشرات التعريفات للمتصوفين الأوائل، فالجنيد يرى أن التصوف هو {أن يميتك الحق عنك ويحييك به}، أما الشبلي فيقول إنه {الدخول في كل خلق سني والخروج من كل وصف دني}، وعرفه رويم البغدادي على أنه {استرسال النفس مع الله على ما يريد}، وهو في نظر معروف الكرخي {الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق}، وقال السهروردي إنه {دوام التصفية والصفاء}، ويعرفه أبو الحسن الشاذلي بأنه {تدريب النفس على العبودية وردها إلى أحكام الربوبية}.
وبالنسبة إلى التعريفات التي تركز على سلوك المتصوفة، فثمة ما أورده السراج الطوسي في كتابه {اللمع} إذ قال: {المتصوفة هم من يتركون ما لا يعنيهم ويقطعون كل علاقة تحول بينهم وبين مقصودهم ومطلوبهم وهو الله سبحانه وتعالى، ثم لهم آداب وأحوال شتى منها القناعة بالقليل والاختصار على ما لا بد منه من حاجات الدنيا من الملبوس والمأكول والمفروش واختيار الفقر على الغنى اختياراً ومعانقة القلة ومجانبة الكثير وإيثار الجوع على الشبع والشفقة على الخلق والتواضع للصغير والكبير والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى والانقطاع إليه}، ومثل ما ذكره أبو بكر الكلاباذي حين يصف المتصوفة بأنهم {أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الغرقى وكلامهم كلام الخرقى} .
في هذا الإطار أطلقت على المتصوفة صفات كثيرة مثل {الكشفتية} و'الجوعية} و'الفقراء} و'الغرباء} لخروجهم من الأوطان هائمين على وجوههم في الأرض و'السياح} لكثرة أسفارهم.
وإذا كان العلماء قد اختلفوا في تعريف التصوف، فإنهم اختلفوا أيضاً في كون التصوف أحد علوم الإسلام الأصيلة النابعة من الحقيقة الإسلامية المتمثلة أساساً في القرآن والسنة؟ أم هو علم طارئ في تاريخ الإسلام جاء نتيجة المزج بين عقائد الأمم التي دخلت تحت عباءة الإسلام من الروم والفرس والهنود وبين العقيدة الإسلامية؟ أم هو أحد طرق الحياة اختطته طائفة من الناس بعد أن استلهمت معالمه من أصول الشريعة ؟