صيغ الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد زعم بعضهم أنه لايجوز ـ حتى في غير
الصلاة ـ أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغ وردت في أحاديث ضعيفة، أو آثار
عن السلف ضعيفة الإسناد، أو هي مما عبر به بعض العلماء الصالحين.
أما الأحاديث الضعيفة: فالعمل بالحديث الضعيف
في فضائل الأعمال جائز عند الجمهور الأعظم من أهل الحديث والفقه، ولم يخالف في ذلك
إلا الأقل النادر، كما يتضح ذلك من كتب مصطلح الحديث، وقد اشترط كثيرون منهم أن
يكون الحديث الضعيف في فضائل الأعمال مما عرفت مشروعيته بدليل شرعي غير الحديث
الضعيف، وأفاد الحديث الضعيف الدلالة على ذكر فضيلة أو مقدارها أو مقدار الأجر،
والأصل الشرعي هنا هو الإطلاق الذي في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه
وسلموا تسليماً}، فالأحاديث الضعيفة والآثار السلفية الضعيفة داخلة في ذلك الإطلاق،
وهذا الأصل الشرعي كاف وحده في دليل المشروعية، وتلك الأحاديث والآثار مؤكدة
لمشروعية هذه الجزئية الواردة فيها مبينة لمقدار الأجر أو الفضيلة، وهذا هو معنى أن
يعتمد الحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
وأما الصيغ التي عبر بها بعض الأئمة وبعض
الصالحين كالذي سبق نقله عن الشافعي رضي الله عنه فليس لها دليل يخصها، وقد اكتفى
الشافعي وأمثاله بدليل المشروعية العامة في الآية والأحاديث الواردة بألفاظ العموم
أو الإطلاق.
الصيغ
المشتملة على التوسل
وأعجب من هذا أنهم فسروا بعض الصيغ المشهورة
بما لا تحتمله من المعاني حتى يتسنى لهم إنكارها أشد الإنكار، فقد زعم بعضهم أن
الصيغة التالية مشتملة على الشرك بالله، وهي ”اللهم صل صلاة كاملة، وسلم سلاماً
تاماً على سيدنا محمد الذي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب، وتقضى به الحوائج،
وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم...الخ“ فزعم المنكرون: أن التلفظ بهذه الصيغة ينسب
إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفعال الخالق سبحانه، فالذي يحل العقد ويفرج الكرب هو
الله تعالى لا رسوله صلى الله عليه وسلم، ونسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
شرك أكبر، هكذا زعموا، وهو اتهام باطل قائم على تفسير باطل، فقولهم ”تنحل به العقد“
ليس بمعنى أنه يحل العقد، لكنه بواسطته ووسيلته تحل العقد، كما هو مفهوم لكل من
يعرف لغة العرب، وكذلك قولهم: ”اللهم صل على سيدنا محمد طب القلوب ودوائها، ونور
الأبصار وضيائها، وعافية الأبدان وشفائها“، هذا ليس فيه شيء من صفات الله تعالى؛
لأن معناه أنه وسيلة إلى ذلك، ولا يقال عن الله تعالى إنه طب القلوب، إنما يقال عن
الرسول صلى الله عليه وسلم إنه طب القلوب بمعنى سبب يتوصل به إلى طب القلوب، وكذلك
يقال في نور الأبصار، وعافية الأبدان وشفائها، وهذا توسل، والتوسل ليس بشرك (حتى
عند هؤلاء المنكرين) إنما هو عندهم بدعة عملية، وبين الشرك والبدعة فرق
عظيم.
والتوسل ليس ببدعة عند أئمة الهدى كالإمام
أحمد، فقد نقل عنه ابن تيمية في كتابه الرد على الإخنائي، وهو المطبوع باسم
(استحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية) بمدينة الشارقة في الإمارات العربية
المتحدة، فقال ص (536): (وسل الله حاجتك متوسلاً إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم
تُقضَ من الله تعالى)، وذكر نحو ذلك الإمام النووي وابن قدامة الحنبلي في أدعية
زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت المسألة خلافية فإتباع هؤلاء أهدى
سبيلاً، وأصح دليلاً لمن بحث عن الحق دون تأويل، والذين استنكروا تلك الصيغة لم
يفرقوا بين التوسل والشرك، ففسروا التوسل بالشرك ليكفروا المسلمين، مع أن نسبة فعل
الله إلى المخلوق الذي تسبب به ثابتة في القرآن كثيراً، كقول جبريل عليه السلام:
{إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}([33])، وتقول الملائكة لإبراهيم عليه
السلام في شأن سيدنا لوط وقومه وامرأته {إلا امرأته قدرنا إنها لمن
الغابرين}([34])، والمقدر هو الله، أما الملائكة فهم كاتبون للمقدر، وهم منفذون
للمقدر، فنسبته إليهم هي نسبة الفعل إلى المتسبب بوقوعه، وهذا موجود في الحديث
الشريف أيضاً، كما روى مسلم برقم (209) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عمه أبي
طالب: ”وجدته في غمرة من النار، فأخرجته إلى ضحضاح منها“ وهو لم يذهب إلى النار
ليخرجه منها، وإنما شفع له كما صرحت الرواية الأخرى عند مسلم، فنسب الإخراج من
النار ـ وهو فعل الله تعالى ـ إلى نفسه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تسبب به بواسطة
الشفاعة.
الصيغ
المشتملة على مديح المصطفى
صلى الله
عليه وسلم
ويعترض آخرون على هذه الصيغ من جانب آخر، وهو
أنها تشتمل على مديح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مبالغة، ولاسيما تلك
الأشعار المنظومة في ذلك المعنى، وهي مخالفة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما أخرجه البخاري برقم (3261)، ومسلم برقم (2368): ”لا تطروني كما أطرت النصارى
ابن مريم“، وهو اعتراض غير صحيح.
فتفسير الحديث بالنهي عن الإطراء مطلقاً
يتركه وكأنه قال صلى الله عليه وسلم : ”لا تطروني“ فقط، وهذا لا يصح سواء فسرنا
الإطراء بالمديح أو بالمديح الزائد عما ينبغي؛ لأنا إذا فسرنا الإطراء بالمديح فقط
يكون قوله: ”كما أطرت النصارى ابن مريم“ تقييداً للمديح المنهي عنه، كأنه قال: لا
تطروني الإطراء الذي أطرت النصارى عيسى بن مريم عليهما السلام.
وإذا فسرناه بالمبالغة في المديح يكون قوله:
”كما أطرت النصارى ابن مريم“ زيادة وتوضيحاً في بيان معنى الإطراء، أي أن المبالغة
المنهي عنها هي إعطاؤه صفات الله الخاصة، أو ما هو باطل كما فعلت
النصارى.
والمهم هو أن المديح المنهي عنه إنما هو
المشتمل على إعطائه الصفات الخاصة بالله تعالى، كما يفهم من قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم ”كما أطرت النصارى ابن مريم“، أما ما دون ذلك فلا مبالغة فيه؛ لأنه صلى
الله عليه وسلم منبع الفضائل، لم يعط أحد من الخلائق منها مثل ما أعطي صلى الله
عليه وسلم.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يمدحونه
بشعرهم، وينشدون ذلك بين يديه، كما قال حسان لعمر ـ في رواية مسلم في فضائل حسان
برقم (2485) ـ حين مر به وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه فقال: (قد كنت أنشد
وفيه من هو خير منك) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم في الباب نفسه من ذلك الشعر قصيدة
حسان التي بدأها مسلم بقوله:
هجوتَ محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك
الجزاء
إلى أن يقول:
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحـه وينصــره
سواء
وروى مسلم في الباب نفسه أيضاً مديحه لعائشة
رضي الله عنها، ومديحه لبني هاشم عموماً، فإذا كان المديح بالحق جائزاً فإن أحق من
يمدح به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحق ما يذكر به في الشعر هو الصلاة عليه
والثناء عليه صلى الله عليه وسلم.
أما الذين يقولون إن الله مدحه في كتابه،
وذلك يغني عن مديح الخلق له، فكلامهم هذا مردود من جهتين: الأولى: أنا إذا مدحناه
لا نمدحه لأجل احتياجه إلى المدح، بل لأنه جدير بأن يمدح.
والثانية: أنه كان الصحابة يمدحونه فيقرهم
على ذلك، والإقرار نوع من السنة النبوية، وإتباعه إتباع للسنة.
أخيراً أسأل الله تعالى أن يرزقني كثرة
الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ودوامها، وأن يجزي خير الجزاء كل من ألف في
الصلاة عليه كتاباً أو جمعه أو اختصره.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى
وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أفضل صلاته وسلامه، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن
ذكره الغافلون.