استحباب
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأوقات
وليس هناك
وقت لا تستحب فيه الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في تفسيره عند الكلام على قوله
تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}: (هي مستحبة في كل حال) وهذا صرح به
الأئمة قبل ابن كثير، فهذا الإمام الشافعي يقول في الأم (3/622) في الكلام على
التسمية عند الذبح: (والتسمية على الذبيحة ”باسم الله“ فإذا زاد شيئاً من ذكر الله
عز وجل فالزيادة خير، ولا أكره مع تسميته على الذبيحة أن يقول: صلى الله على رسول
الله، بل أحبه له، وأحب له أن يكثر الصلاة عليه، فيصلي عليه في كل الحالات؛ لأن ذكر
الله تعالى والصلاة عليه إيمان بالله، وعبادة له، يؤجر عليها من قالها) ثم ذكر
الشافعي حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ”لقيني
جبريل، فأخبرني عن الله عز وجل أنه قال: من صلى عليك صليت عليه، فسجدت شكراً
لله“([7]). ثم قال الشافعي([8]) في (3/622): (ولسنا نعلم مسلماً، ولا نخاف عليه أن
تكون صلاته عليه صلى الله عليه وسلم إلا الإيمانَ بالله، ولقد خشيت أن يكون الشيطان
أدخل على بعض أهل الجهالة النهي عن ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
الذبيحة ليمنعهم الصلاة عليه في حال لمعنى يعرض في قلوب أهل الغفلة، وما يصلي عليه
أحد إلا إيماناً بالله تعالى، وإعظاماً له وتقرباً إليه ).
أدلة
العموم كافية لإثبات مشروعيته دائماً
واستدلال الشافعي بالحديث مبني على أن اللفظ
فيه عام يشمل كل المصلين في أي حالة كانوا، وهو مؤيد بالأمر المطلق في قوله سبحانه:
{يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} لأن الأمر المطلق ينطبق على كل
حالة يقع فيها العمل الذي أمر الله به، فلا تحتاج كل حالة إلى دليل يخصها، بل العكس
هو الصحيح، أي يحتاج إلى الدليل من يدعي المنع في أي وقت أو حالة مما دخل في العموم
أو الإطلاق، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، فيطلب دليلاً خاصاً لكل حالة، أو لكل
جزئية من العمل المشمول بعموم الآيات أو الأحاديث، مع أن العموم يكفي وحده، ويحتاج
من يدعي المنع في حالة من الحالات أو جزئية من الجزئيات إلى دليل يستثنيه من ذلك
العموم، أو يخرجه من ذلك الإطلاق، ومن زعم في شيء مما يشمله العموم أنه بدعة فقد رد
على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف الأمور التي لاعموم يشملها، فهذه
تحتاج كل حالة وكل جزئية إلى دليل يثبت مشروعيتها، ولو كان كل عمل يشمله العموم
يحتاج إلى دليل خاص مع ذلك لكان من يزعم في أمر أنه ضلالة لا يكفيه الاستدلال بحديث
”كل بدعة ضلالة“ بل تحتاج كل بدعة إلى دليل يخصها ولا قائل بذلك.
الجهر
بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأذان
وبناء على هذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم
في الأمر بالصلاة عليه بعد الأذان يشمل كل المخاطبين، ومنهم المؤذن، وجاء تأكيد
العموم بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: ”فمن سأل لي الوسيلة حلت له
شفاعتي“ فهو يشمل المؤذن، ولا يصح أن يقال هو مأمور بالدعاء بالوسيلة، غير مأمور
بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، كما أن الأمر المطلق في هذا الحديث ينطبق على
حالة الجهر، وعلى حالة الإسرار، فيكون الجهر مشروعاً؛ لإنطباق الأمر المطلق عليه،
واستمرار العمل على الإسرار في العهد النبوي وغيره لا يعارض دلالة الأمر المطلق في
الحديث على مشروعية الجهر، وكونه فاضلاً، إنما يدل على أن الإسرار أفضل، ولا يقال
لمن فعل الفاضل وترك الأفضل إنه مبتدع أمراً لا دليل عليه من الشرع، فإذا قصد
المؤذن بالجهر أن يذكر الناس بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان
كان ذلك تأكيداً لاستحباب الجهر مع أنه فاضل في نفسه، وأما قول بعضهم: لماذا يجهرون
بالصلاة وحدها ولا يجهرون بالدعاء بالوسيلة؟ فهو اعتراض ضعيف؛ لأنهما دعاءان يجوز
الجهر بهما والإسرار بهما، والجهر بواحد دون الآخر، لاسيما إذا كان الأول يذكر
بالثاني، فيغني عن الجهر بهما، وهذا هو المقصود بالجهر([9]) .
وأما قولهم إن المطلوب في الدعاء الإخفاء كما
قال سبحانه: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}([10]) فهو إعراض عن الأحاديث التي فيها
الجهر بالدعاء عند شدة الاهتمام، كحديث ”لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتكم
كثيراً... ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالدعاء“ رواه الترمذي برقم (2312)
وقال: هذا حسن غريب، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء، كما قال القاموس، فرفع الصوت غير
محرم، بل هو جائز، وتذكير الناس يستدعي رفع الصوت.
متى حدث
الجهر
وقد ذكر الإمام السخاوي في كتابه القول
البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع صلى الله عليه وسلم، ص
(376): أن صلاح
الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ حين ملك مصر أمر بذلك حين قيل له إن بعض ملوك
الفاطميين أمروا المؤذنين أن يدعو للسلطان بعد الأذان، فأبطل ذلك وأمر بأن يصلوا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم الذين عاصروه،
واستمر العمل به في كثير من الأقطار الإسلامية منذ ذلك الحين. قال السخاوي ص (377):
(وقد اختلف في ذلك، والصواب أنه بدعة حسنة) وأقول: وبيان استحبابه قد سبق بأدلته،
والله الموفق سبحانه.
الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإقامة والدعاء بالوسيلة
وكما تستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم بعد الأذان سراً أوجهراً للمؤذن والسامع تستحب أيضاً بعد الإقامة للمقيم
والسامع؛ لأن الإقامة أذان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري
برقم (598): ”بين كل أذانين صلاة“ وفسره العلماء بأن المراد بين كل أذان وإقامة،
وكما جاء في حديث البخاري برقم (870): ”أن عثمان رضي الله عنه زاد الأذان الثالث
يوم الجمعة“ وهو ما قبل الأذان والإقامة؛ لتنبيه الناس إلى صلاة الجمعة، علماً بأن
الإقامة تسمى في اللغة أذاناً؛ لأنها إعلام، قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص
(304): (الموطن السادس من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد إجابة المؤذن،
وعند الإقامة) وكذا ذكر ذلك السخاوي في القول البديع ص
(348).
ولأن الإقامة
أذان كما تقدم يسن في ختامها ما يسن في ختام الأذان وهو الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم والدعاء بالوسيلة ولا يتوقف ذلك على دليل آخر وترك الصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم بعد الإقامة وترك الدعاء بالوسسيلة أيضاً يخالف وله صلى الله عليه
وسلم : ”إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة
صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي
إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة“.
أول
الأنبياء خلقاً
ومما اعتاده المؤذنون في الصلاة عليه صلى
الله عليه وسلم بعد الأذان أن يقولوا: ”الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله“
فأنكره بعض الناس، وزعم أنه بدعة؛ لأن أول الناس خلقاً هو سيدنا آدم عليه الصلاة
والسلام.
وهذا لا دليل فيه؛ لأن الناس لا يعنون أنه
صلى الله عليه وسلم أول الناس خلقاً أي جسمه، إنما المعنى أن روحه قد خلقت أول
الأرواح، والذي ينبغي بيانه هنا هو الدليل على أن روحه صلى الله عليه وسلم أول
أرواح الناس خلقاً، وقد ذكر كثير من المفسرين في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه
وسلم، ويظهر ـ إن شاء الله ـ من مجموع طرقه أنه ثابت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
”كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث“.
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية السابقة
من سورة الأحزاب (21/125): (حدثنا بشر قال ثنا يزيد ثنا سعيد عن قتادة... ذكر لنا
أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كنت أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في
البعث) وهذا مرسل رجاله ثقات، وقد رواه ابن سعد أيضاً([11]) ، ورمز السيوطي في
الجامع الصغير لصحة سنده، وهو مرسل، وتأتي معضداته ـ إن شاء الله ـ لكن ينبغي قبل
ذلك التنبيه إلى أن الحديث المرسل حجة عند الإمام مالك وأبي حنيفة، ويعمل به الإمام
أحمد إذا لم يكن في الباب غيره، فلو أنه لم تعضده الروايات الأخرى لما جاز الإنكار
على من يقول ”يا أول خلق الله“؛ لأن من بنى على قواعد الأئمة المعتبرين لا يقال له
مبتدع وإن أخطأ، ولو صح أن يقال لمن يخطئ في الاستدلال إنه مبتدع لأدى ذلك إلى وصف
الصحابة بالإبتداع؛ إذ كانوا يختلفون في اجتهاداتهم، فيكون المخطئ منهم مبتدعاً، لو
كان خطأ الاجتهاد بدعة، وهذا لا يقوله أحد، وأما أن يكون قوله بدعة في نظر مخالفه،
فهذا لا عبرة له؛ لأن مخالفه قد يكون في الواقع هو المخطئ، ولأن المخطئ في الاجتهاد
مأجور بنص الحديث الشريف، ولا يمكن أن يعطيه الله الأجر لو كان مبتدعاً عند
الله.
وأما الإمام الشافعي رضي الله عنه فالحديث
المرسل عنده يحتج به بشرط أن يكون له معضد من رواية أخرى، وهذا هو المشهور عند
المحدثين المتأخرين، وهذا الحديث معضد برواية مسندة من طريق قتادة عن الحسن عن أبي
هريرة. ففي تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم
ومنك ومن نوح}([12]) (3/469): (قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا
محمد بن بكار حدثنا سعيد بن بشير حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك
ومن نوح} الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ”كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم
في البعث، فبدأ بي قبلهم“ سعيد بن بشير فيه ضعف) فهذا المرفوع معضد لذاك المرسل؛
لأن سعيداً هذا ضعفه يسير كما يتضح من عبارة ابن كثير، وكذلك تنجبر عنعنة قتادة
بالطريق الأخرى الآتية، أما عنعنة الحسن فلا تضر؛ لأن تدليسه يسير، نص الحافظ ابن
حجر في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ص (103) على أنه من أهل
المرتبة الثانية، وذكر ص (62) في هذا الصنف أن المحدثين احتملوا تدليسه لندرته
وجلالة صاحبه، وبذلك يكون متن هذا الحديث حسناً لذاته([13]) إذا أخذنا بتعديل سعيد
بن بشير؛ إذ هو مختلف فيه كما يظهر من ترجمته في تهذيب التهذيب، ويكون حسناً لغيره
إذا أخذنا بتضعيف سعيد بن بشير.
والرواية الأخرى ذكرها الطبري في تفسيره
(15/6ـ11) ضمن حديث الإسراء من([14]) رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ونقلها عنه ابن
كثير أول تفسير سورة الإسراء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيما عدد الله
له من فضله عليه أنه قال له: ”وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم
بعثاً“.
قال ابن كثير (5/36) تعليقاً على أحد رجال
سند هذه الرواية: (وأبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يهم في الحديث
كثيراً، وقد ضعفه غيره أيضاً، ووثقه بعضهم، والظاهر أنه سيء الحفظ، ففيما تفرد به
نظر).
قلت: وهذه اللفظة ليست مما تفرد به، وقد قال
فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: ”صدوق سيء الحفظ“ فأقل حاله أن تصلح روايته
للتعضيد على قول الذين ضعفوه، وتكون روايته حسنة عند الذين عدلوه، وأما مع مجموع
الطرق فالحديث حسن أو صحيح لغيره، ولا يعترض على من وصف النبي صلى الله عليه وسلم
بأنه أول خلق الله، أي أول الناس خلقاً كما جاء في بعض ألفاظ رواية الحديث
المتقدم.
وصف النبي
صلى الله عليه وسلم بالسيادة
بقيت كلمة لا بد منها، وهي وصف النبي صلى
الله عليه وسلم بالسيادة عند ذكره والصلاة عليه، وقد كثر الإنكار عليه في أيامنا
هذه، ومستند المنكرين أمران. أولهما: أن الأحاديث التي جاء فيها تعليم الصلاة عليه
ليس فيها لفظ السيادة. وثانيهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: أنت
سيدنا: ”السيد الله“ وقال لهم: ”لا يستجرينكم الشيطان“([15]).
وهو استناد يحتاج إلى الإيضاح والمناقشة، أما
أنه لم يرد في الأحاديث التي فيها تعليم كيفية الصلاة عليه، فهذا إنما يصح أن يقال
في الصلاة عليه ضمن الصلاة ونحوها مما ينبغي فيه التقيد بالألفاظ الواردة دون
زيادة، ومع ذلك فقد ثبت([16]) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ”إذا صليتم على
النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه... قولوا: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك
وبركاتك على سيد المرسلين...“ وهذا أمر جاء بعد أداة الشرط، فهو يعم ما يكون في
الصلاة بعد التشهد، وغير ذلك، لاسيما أنه ذكر في آخر هذه الرواية صيغة الصلوات
الإبراهيمية المشهورة، التي تقال في الصلاة، وحسب المسلم قدوة من السلف ابن مسعود
رضي الله عنه، وقد جاءت رواية ابن مسعود ـ التي تقدمت هنا ـ مرفوعة إلى النبي صلى
الله عليه وسلم عند ابن أبي عاصم في كتابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
بسند جيد([17]) ، ولا تعارض بين الرفع والوقف، بل هو من زيادات الثقات([18]) ، فلا
يكون هذا الرفع شاذاً يضعف به هذا الحديث.
وأما حكم ذلك في الصلاة فهو موضع اختلاف، لم
يتكلم فيه المتقدمون بمنع ولا استحباب، سوى قول ابن مسعود هذا ورواية عن ابن عمر أو
ابن عمرو، رواه إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينسب
إليهم قول، واختلف المتأخرون فيه بين مستحب له وكاره ومتردد، وكلهم من الأئمة
المقتدى بهم، فلا ينكر على قائل، ولا تارك، مثل كل أمر اجتهادي، ومما احتج به
المجيزون قولهم: إن الآتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع السيادة آت
بالمطلوب وزيادة في التعظيم موافقة لما جاء في الأحاديث الأخرى، وقد ذكر المهم من
ذلك الإمام السخاوي([19]) .
وأما غير الصلاة كمجالس الذكر فلا يقال لا
يجوز الزيادة عليها؛ لأن مثل هذا يكفي فيه أن تكون الزيادة في نفسها موافقة لأدلة
الشرع، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة ثابت في حديث مسلم برقم (194): ”أنا سيد
الناس يوم القيامة“ وهو عند البخاري برقم (3162)، فوصفه صلى الله عليه وسلم
بالسيادة جائز ثابت في كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى من هو أقل منه
مرتبة من الأنبياء سيدنا يحيى عليه السلام فقال: {وسيداً وحصوراً}([20])، فكيف
يمتنع وصفه به وهو أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد وصف به النبي صلى الله
عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنه فيما رواه البخاري برقم (2557) فقال: ”إن ابني
هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“، بل أمر النبي صلى
الله عليه وسلم الرقيق فيما رواه مسلم برقم (2249) أن لا يقول لمالكه ربي، وقال:
”ولكن ليقل سيدي“.
فلفظ السيد من الألفاظ المشروعة، وهو مما
يستعمل عند التكريم، وقد أمرنا الله تعالى بتكريم نبيه صلى الله عليه وسلم في
الخطاب، فقال سبحانه: {لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}([21])، وقال
سبحانه: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون}([22]) والتعزير: معناه النصرة مع التعظيم، كما في مفردات الراغب
الأصبهاني.
وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يخاطب المنافق فقط بلفظ السيادة فقال: ”لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يك سيدكم
فقد أسخطتم ربكم“ رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (22939) عن عبد الله بن بريدة عن
أبيه([23]).
ولو كان حديث ”السيد الله“ يعارض وصف المخلوق
بالسيادة لكانت الأحاديث متضاربة؛ إذ يقال حينئذٍ: كيف يقول النبي صلى الله عليه
وسلم عن نفسه ”أنا سيد ولد آدم“ بعد أن قال: ”السيد الله“، وحاشا أن يكون في السنة
شيء من التناقض، ولو افترضنا الحديثين متعارضين لوجب أن يقدم الأثبت منهما، وحديث
”أنا سيد ولد آدم“ متواتر([24])، وبعض رواياته بلفظ: ”أنا سيد الناس“ لا يقدم عليه
شيء، بل يقدم على كل ما يخالفه، لو وجد له مخالف.
الجمع بين الأحاديث
والواقع أن حديث ”السيد الله“ يدل بنفسه على
المقصود منه، لو نظر إليه الباحث المنصف من خلال قواعد تفسير الألفاظ الشرعية؛ وذلك
لأن كلمة ”سيد“ حين تكون مقرونة بالألف واللام تدل على الكمال في الصفة، فيكون معنى
الحديث أن السيد الذي جمع وصف السيادة المطلقة بحيث لا يساويه غيره هو الله تعالى.
وكل من وصف بالسيادة غيره فمعنى السيادة فيه غير معناه في الخالق سبحانه، كما يوصف
غيره سبحانه بالحلم ونحوه، ويكون معناه في المخلوق غير معناه في الخالق
سبحانه.
على أن الحديث نفسه معه من الألفاظ ما يدل
على جواز وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال للذين
قالوا له: ”أنت سيدنا، فقال: السيد الله، قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال:
قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان“ فقوله صلى الله عليه وسلم:
”قولوا بقولكم“ إذنٌ في أن يقولوا الألفاظ التي تقدم ذكرها، ونهي عما يدعو إليه
الشيطان من الخروج عما أحل الله إلى غير ذلك، وهو وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة
على معنى السيادة الخاصة بالله تعالى، وقوله: ”أو ببعض قولكم“ تخيير بين تلك
الألفاظ لمن أراد الاقتصار على بعضها.
ومن زعم أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم إلا بالألفاظ الواردة ـ ولم تأت الصلاة عليه في السنة مقرونة بالسيادة ـ فليأت
بقول السلف في المنع، ولا يصح أن يقال إن سكوتهم يدل على المنع؛ لأن السكوت إنما
يستدل به حيث لا يوجد دليل، والإطلاق الذي في الآية يدل على المشروعية، أما من منع
السيادة بلا دليل راجح على هذا فقد خالف الإطلاق الذي خاطب الله تعالى به عباده في
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً“، وضيق ما وسع الله على
عباده، وقد ثبت عن ابن مسعود ذكر لفظ السيادة في الصلاة، كما سبق، بل ثبت رفع ذلك
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت في الصلاة فمشروعيته في غيرها أولى، ولكن
المانعين يوجبون على الناس ألا يصححوا من الأحاديث إلا ما صح في نظرهم، وألا يأخذوا
بدليل إلا ما ثبت في نظرهم، وفهمهم من السنة هو السنة، وفهمهم من القرآن هو القرآن،
وما يقبلونه من أقوال السلف هو مذهب السلف، وما سوى ذلك هو بدعة ضلالة.
وهذه كتب العلماء قديماً وحديثاً مليئة
بالألفاظ المنوعة في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كتب ابن تيمية
وتلاميذه وأتباعه، ومن أقدم ما جاء عن الأئمة في الألفاظ التي لم ترد عن النبي صلى
الله عليه وسلم قول الشافعي رضي الله عنه في مقدمة كتابه الرسالة([25]) : (صلى الله
على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الآخرين أفضل
وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه) وغيره في كتبه وكتب غيره كثير، وهو داخل في
عموم تعظيمه، وقد أمر الله تعالى بتعزيره ـ والتعزير: النصرة مع التعظيم، كما قال
الراغب في مفردات القرآن، قال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور
الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}([26])ـ بالألفاظ الدالة على تعظيمه المأمور به في
قوله سبحانه: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم
بعضاً}([27]).
وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد
التشهد الأخير في الصلاة فهي ـ وإن احتملت الإلزام بالألفاظ الواردة لكونها ضمن
الصلاة ـ إلا أنها عند النظر في الاستدلال لا تختلف عن غير الصلاة؛ وذلك لأن الدليل
على وجوبها أو استحبابها في الصلاة وخارج الصلاة، هو الأمر المطلق في قوله سبحانه:
{ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}([28])، والأمر المطلق إذا ورد عن
النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أو العمل ببعض ما يصدق عليه لم يكن ذلك مانعاً من
غيره، وإن كان ما عمل به أو أمر به صلى الله عليه وسلم هو الأفضل([29])، ولذلك ذكر
الإمام الشافعي في الأم (2/272): أن الواجب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
آخر الصلاة هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه
إذا اقتصر على ذلك كرهه له، ثم قال: (ولم أر عليه إعادة؛ لأنه قد جاء باسم تشهد
وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم).
هذا بالإضافة إلى أن الصلاة عليه صلى الله
عليه وسلم هي من قبيل الدعاء، وقد جاءت الأحاديث والأدلة الأخرى بمشروعية عموم
الدعاء، فلا يقال عن شيء منه إنه ممنوع إلا بدليل يخص ذلك الشيء المعين من عموم نحو
قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء}([30])، ومن خص شيئاً منه بلا دليل فقد ابتدع، بل
رفض ما شرع الله تعالى، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري
بعد التشهد برقم (800) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر التشهد: ”ثم يتخير
من الدعاء أعجبه إليه فيدعو“، وفوق ذلك فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من
توابع التشهد، والتشهد وردت فيه ألفاظ عن الصحابة، ليست مروية عن النبي صلى الله
عليه وسلم كزيادة عمر رضي الله عنه في التحيات: (الزاكيات) كما رواه مالك
في الموطأ موقوفاً عليه([31])، وكما مر في
رواية ابن مسعود الموقوفة المشتملة على لفظ الزيادة([32]).
وعلى كل حال لسنا ممن يستنكر على الأئمة
الذين منعوا لفظ السيادة في الصلاة لأدلة بنوه عليها، إنما المستنكر حقاً هو أن
يمنع المرء غيره من أهل العلم أن يثبتوا لفظ السيادة ؛ لما عندهم من الأدلة التي
بنوه عليها، ثم يزعم أن ما وصل إليه باجتهاده هو السنة، وأن ما وصل إليه غيره
باجتهاده هو البدعة، وأن يزعم ضمناً أن اجتهاده هو الميزان لكل العلماء، فما وافقه
فهو الحق وما خالفه هو البدعة.