لو لم يكن محمداً رسولاً لكان إنساناً فى مستوى الرسول ..!!
و لو لم يتلقَّ الأمر من ربه : (( يا أيُها الرسولُ بَلِّغْ ما أُنزِل
إليك )) لتلقاهُ من ذات نفسه ، يا أيها الإنسان بَلِّغْ ما يَعتلجُ لك فى ضَميرك
...
ذلك أن " محمداً الإنسان " جاوزَ نُضْجهُ و ارتقاؤهُ كل تُخومِ الذات و حدودها ،
و لو لم يكن ثَمة سبيل لوقف انتشار هذا النُضْج ، و هذا الإرتقاء خارج الذات و
خارج البيئة .. بل خارج كل زمان ، و كل مكان .. إن عظمته التى فرضت نفسها ، و نادت
إليها ولاء المؤمنين ، و إعجاب المعرضين ..
عظمته .. التى لبثت زهاءَ ألف و أربعمائة عامٍ ، و ستظلُ دوماً ، ترسل
ضياؤها و ثناؤها .. و تَبُثُّ فى ضمير الزمن رُشدها ، و نُهاها
عظمتها هذه ، تَنبع ـ أول ما تنبع ـ من إنسانية " محمد " .. من الطريقة
التى كَوَّنَ بها نفسه ، و وِجدانه ، و عقله تحت عين الله و رعايته .. و من الموقف
الذى اختاره و التزمه ، تجاه الكون ، و الناس و الحياة .. و الحقُّ أنَّ " محمداً
الإنسان " شىءٌ باهر .. فإذا التقى به " محمدٌ الرسول " فإن عظمته آنَ إذْ تجاوزُ
كل حدودِ الثناء .. ولكن لماذا أضع " الإنسان " مقابل " الرسول " .. ؟؟ أوليس "
الرسول" إنساناً .. ؟؟
بلى .. إنَّ الرسولَ إنسانٌ ، و إنما أريد بصفة الإنسان هنا ، التنبيه
إلى أننى أُركِز الحديث على الطابِع البشرى المَحْضْ الذى يشترك فيه " محمد " مع
غيره من الناس .. والذى تفَرق فيه على من سواه من الناس .
فهذا الطابع البشرى بكل انفعالاته ، و بساطته ، و تلقائياته ـ هو الذى
يُبهجنا و يُبهرنا ، لأنه من صنع واحدٍ مِنا .. واحدٌ مثلنا .. و من ثمَّ ، فهو
يمنحنا ثقةً بأنفسنا ، و احتراماً عظيماً لبشريتنا التى تُنْجِبُ مثل هذا الطِراز
الرَفيع من الخلق ..
هنالك نرى الإنسان الحانى ، الذى لا تفلِت من قلبه الذكى شاردةً من
آمالِ الناس إلا لَبَّاها .. و رَعاها .. و أعطاها من ذات نفسه كلَّ اهتمامٍ وتأييد
.
نرى الإنسان الذى يكتب لملوك الأرض طالباً إليهم أن يُنبِذوا غرورهم
الباطل ثم يصغى فى حفاوةٍ و رِضاً ، لأعرابىٍ حافىَ القدمين يقولُ فى جهالة : "
إعدِلْ يا محمد ، فليس المالُ مالُكَ و لا مالُ أبيك .. " !!
نرى العابد الأوَّاب ، الذى يقفُ فى صلاتهِ ، يتلو سورةً طويلةً من
القرآن فى انتشاءٍ و غِبطةٍ ، لا يُقايضُ عليها بملىء الأرض تِيجاناً و ذَهباً ..
ثم لا يلبثَ أن يسمع بُكاءَ طفلٍ رضيعٍ كانت أمُهُ تُصلى خلف " الرسول " فى المسجد
: فيُضحى بغبطتهِ الكبرى و حبورِهِ الجَيَّاش ، و يُنهى صلاته على عَجَلٍ ، رحمةً
بالرضيع الذى يبكى و يُنادى أمهُ بِبكاءه .. !!
نرى الإنسان الذى وقف أمامه ـ صاغرين ـ جميع الذين شَنُّوا عليه الحربَ
و البغضاء ، و مَثَّلوا بجُثمانِ عمهِ الشهيد " حمزة " و مَضَغُوا كبدهُ فى وَحشيةٍ
ضَاريةٍ ، فيقولُ لهم (ص) : ( إذهبوا فأنتمُ الطُلقاء ) !
نرى الإنسان الذى يجمع الحطب لأصحابه فى بعض أسفارهم ليستوقدوهُ ناراً
تُنضِجُ لهم الطعام ..! و الذى يرتجفُ حين يُبصِرُ دابةً تحملُ على ظهرها أكثرَ مما
تطيق! و الذى يحلبُ شاتَهُ ويُخَيطُ ثوبهُ و يخسفُ نعلهُ .! و الذى يقفُ بين الناس
خطيباً فيقولُ ( ص ) : ( من كنتُ جلدتُ له ظَهراً فهذا ظهرى فليقتدَّ منه )
..!
أجل .. نرى الإنسان أبهى ، و أنقى ، و أسمى ما يكون الإنسان ...