الزهد.............قل متاع الدنيا قليل

الحمد لله ربّ العالمين له النعمة وله الفضلُ وله الثناءُ الحسَن، وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين.
الآيات الواردة في ذم الدنيا كثيرة، والقرءان مشتمل على ذمّ الدنيا وصرف الخلق عنها، ودعوتهم إلى الآخرة. يقول الله تعالى في القرءان الكريم :{وما الحياة الدنيا إلاَّ متاعُ الغرور} (سورة ءال عمران/185).
ويقول تعالى :{قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتَّقى ولا تظلمون فتيلا} (سورة النساء/77).
ويقول تعالى :{فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (سورة لقمان/33) وقال تقدّست أسماؤه :{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخرٌ بينكم} (سورة الحديد/20).
الدنيا دار الممر والآخرة دار المقر والعاقل الفطن يتزود من ممره إلى مقره، والدنيا لا تدوم لأحد ولا تصفو لأحد والعاقل مَن ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقَه قبل أن يلقاه. والدنيا مكان دحض مزلة ودار مذلّة عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور سائر، فافزع إلى الله، وارضَ برزق الله، أكثِر من عملك الصالح وأقصر من أملك، فلا تعلّق قلبكَ بحب الدنيا ولا تغرنَّك الحياة الدنيا فإنها إلى زوال. هذه الدنيا تزول والبقاء ليس يطول، هذه الدنيا كساعة فاجعل الأعمال طاعة، والنفس طماعة علّمها القناعة واشتر خير البضاعة واقتد دومًا بمحمد صلى الله عليه وسلم. واعلم أنّك ميت ومبعوث من بعد الموت وموقوف على عملك ومجزي به. لا تغرنك الحياة الدنيا يا ابن ءادم فإنها بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة وكل ما فيها إلى زوال.
روى مسلم رحمه الله أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال :"الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر". وروى الترمذي ّرحمه الله أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم قال :"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا".
"ذكر الله" أي طاعة الله، "وما والاه" أي ما ساعد على طاعة الله كالمال الحلال. "وعالمًا" أي الذي تعلّم علم الدين من أهل العلم الثقات وعمل به مخلصًا لله تعالى وحارب أهل البدع والمجسمة والمشبهة وغيرهم من أهل الضلال.
"ومتعلمًا" أي الذي يتعلم ما فرضَ الله عليهِ تعلمه من علم الدين على سبيل النجاة. لذلك اهتموا لعلم الدين حتى تنفعوا أنفسكم وأولادكم وأهاليكم وجيرانكم، وإياكم أن يحصل منكم فتور في علم الدين، الذي لا يتعلم علم الدين الضروري يهلك ويُهلك غيرَه. من أراد اللهُ به خيرًا يحب علم الدين ولا يشبع منه، قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم :"لا يشبعُ مؤمنٌ من خيرٍ يسمعه حتى يكونَ منتهاهُ الجنّة".
وقد روي أنّ سيدنا المسيح عليه السلام، الذي كان من رءوس الزاهدين في الدنيا قال: يا معشر الحواريين إنّي قد كببتُ لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي ... ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها، واعلموا أن أصلَ كل خطيئة حبّ الدنيا، وربّ شهوة ساعة أورثت أهلها حزنًا طويلاً.
وقد روي أن سيدنا ءادم عليه السلام قال:

لِدوا للموت وابنوا للخراب * فكلكم يصير إلى التراب
وروي أن سيدنا سليمان عليه السلام كان على بساط في الفضاء مع العلماء والأولياء والجنود، فمرّ على فلاح يحرث أرضه، فنظر الفلاح إلى البساط في الفضاء، فقال: سبحان الله كم أوتي ءال داود، فحملت الريحُ كلامَ الفلاح إلى سمْع سيدنا سليمان، فأمر البساط فنزل، ثم مشى إلى الفلاح وسلّم عليه وقال له: لقد مشيتُ إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، واعلم أنه لَتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير من الدنيا وما فيها، فسُرّ الفلاح وقال: أذهبَ اللهُ همَّك كما أذهبتَ همّي، ويروى أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام قال له رجل أراد صحبته: يا روحَ الله (أي أنّ روحه مشرفة وكريمة على الله) أكون معك، فصحِبَه، فانطلقا فانتهيا إلى شاطىء نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفين وبقي رغيف فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب منه، ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، فانطلق ومعه الرجل، فرأى ظبية أي غزالة ومعها ولدان لها فدعا واحدًا فأتاه فذبحه واشتوى منه فأكل هو والرجل، ثم خاطب سيدنا عيسى عليه السلام الظبيّ بعد أن ذبحه وأكل وصاحبه منه: قم بإذن الله، فقام، فقال للرجل الذي يصحبه: أسألك بالذي أراك هذه الآية أي المعجزة من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري. فانطلقا حتى انتهيا إلى مفازة (فلاة وبرية) فجمع عيسى عليه السلام ترابًا وكثيبًا أي رملاً، ثم قال له: كن ذهبًا بإذن الله فصار ذهبًا فقسمه ثلاثة أقسام، فقال ثلث لي وثلث لك وثلث للذي أخذ الرغيف، فقال أنا الذي أخذتُ الرغيف، فقال عيسى عليه السلام: كُله لك وفارقه. فانتهى لهذا الرجل الذي أخذ الذهب رجلان أرادا أن يأخذها الذهب ويقتلاه، فقال لهما هو بيننا أثلاثًا، فقبلا ذلك، فقال واحد: يذهب واحد إلى القرية حتى يشتري لنا طعامًا فذهب واحد منهم واشترى طعامًا وقال في نفسه: لأي شىء أقاسمهما هذا المال؟ أنا أجعل في هذا الطعام سمًّا فأقتلهما وءاخذ المال جميعه. فجعل فيه سمًّا، وقال الرجلان فيما بينهما: لأي شىء نجعل له الثلث إذا رجع إلينا قتلناه واقتسمنا المال نصفين، فلما رجع إليهما قتلاه ثم أكلا الطعام المسموم فماتا، فبقي ذلك الذهب في المفازة والفلاة، وأولئك الثلاثة قتلى عنده، فمرّ عليهم سيدنا عيسى عليه السلام وهم على تلك الحال، فقال لأصحابه: هذه الدنيا فاحذروها، أمّا هؤلاء فقد قتلهم الطمع. فتأمل هذه الحادثة وكم فيها من العبر، نسأل الله السلامة وحسن الختام.
وروي عن المسيح عليه السلام أنّه قال: لا يستقيم حبّ الدنيا والآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد. وروي أن جبريل عليه السلام قال لنوح عليه السلام: يا أطول الأنبياء عمرًا، كيف وجدت الدنيا؟ فقال: كدار لها بابان، دخلتُ من أحدهما وخرجتُ من الآخر. وقد روي عن سيدنا عيسى عليه السلام أنّه قال: ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وما فيها، وتغرّه ويأمنها، ويثق بها وتخذلُه. هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وإنّ موضع سوطٍ في الجنّة خيرٌ من الدنيا وما فيها، وإنّ الدنيا بالنسبة للآخرة كالبلل الذي يعلق على الإصبع إذا أدخلتَه البحر، فما هي نسبة البلل بالنسبة للبحر؟! يقول ابن مسعود الصحابي الجليل: ما أصبح أحدٌ من الناس إلاّ وهو ضيف، ومالُه عارية، فالضيف مرتحل والعارية مؤداة أي مردودة، والمعنى أننا كلنا رائحون عن هذه الدنيا وإلى القبور صائرون، وإلى أرض القيامة سائرون، قسم فائزون مسرورون، وقسم خاسرون هالكون، قسم في الجنة مخلدون وقسم في النار مخلدون وهم الكفار، الموت جميعًا يعمّنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا وإلى الله العظيم مرجعنا، فريق إلى الجنة وفريق إلى النار. يا عبد الله لا تغرنّك الحياة الدنيا ولا يغرنّك بالله الغرور، فالدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ، فكم من أناس بسبب الدنيا ضيعوا الفرائض، وكم من أناس أكلوا الحرام بسبب الدنيا، وكم من أناس أمضوا عمرهم في السجون بسبب الدنيا، وكم من أناس وقعوا في الكفر بسبب الدنيا، وليتفكر الفطن الذكي فيمن ملّكهم الله تعالى الدنيا، فقد ملَك الدنيا اثنان مؤمنان وهما سيدنا سليمان عليه السلام، وذو القرنين عليه السلام، ثم فارقاها وتركاها لأهلها، واثنان كافران وهما النمرودُ وشداد بن عاد، ثم ماتا وهلكا وتركاها، وتأمل ما جاء في هذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم رحمه الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :"يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال يا ابن ءادم هل رأيتَ خيرًا قطّ هل مرّ بك نعيمٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنّة فيصبغ صبغةً في الجنة فيقال له: يا ابن ءادم هل رأيت بؤسًا قط، هل مرّ بك شدة قط، فيقول: لا والله ما مرّ بي بؤس قطّ، ولا رأيتُ شدّة قطّ".
وليعلم أن سؤال الله للعبدِ "هل رأيت خيرًا قط" ليس معناه أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم هل مرّ به خير أو لم يمر، بل الله تعالى علِم بكل شىء قبل حصوله بعلم أزليّ أبديّ لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يزيد ولا ينقص، ولكن ليعلّم الناس أنّ نعيمَ الدنيا يذهب بغمسة في نار جهنم، وليعلّم الناس حال هذا الرجل فيعتبر من يعتبر.
فلا تنظر إلى من هو فوقك في الدنيا ولكن انظر إلى من هو فوقك في الدّين والتقوى والورع، واقتدِ به واجعله لك أسوة وقدوة حسنة، ولا تغفل عن قول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام :"انظروا إلى مَن هو أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدوا نعمةَ الله عليكم" متفق عليه.
وفي رواية البخاريّ :"إذا نظر أحدُكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلْق فلينظر إلى مَن هو أسفل منه". وما أحسنَ قول الإمام الحسن البصري رحمه الله حيث قال :"إذا رأيت الرجل ينافسكَ في أمر الدنيا فنافسْه في أمر الآخرة". يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"اللهم لا عيشَ إلاّ عيش الآخرة" ويقول أيضًا :"يتبع الميّتَ ثلاثة: أهلُه ومالُه وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجعُ أهلُه وماله ويبقى عملُه".
ونختم الحديث بقول الإمام أبي الشهيدينِ سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال :"ارتحلت الدنيا وهي مدبرة وارتحلت الآخرة وهي مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، اليومَ العملُ ولا حساب، وغدًا الحساب ولا عمل". رواه البخاري في كتاب الرقاق.
اللهمَّ نعوذ بك من فتنة الدنيا، وفتنة المحيا والممات، ونسألك السلامة من الدنيا وحسن الختام، وصلى الله وسلم على أشرف الخلق محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين.
مع تحيات
اخوكم
رجب العميشي

موضوع: رد وشكر السبت يناير 23, 2010 5:18 pm


[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] اخى الكريم [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]