هل كانت قبلته في مكة (الكعبة أو بيت المقدس) بوحي من الله أو باجتهاد منه؟
أما استقبال الكعبة فقيل إنه بِوَحْي، على ما يُفهم من قوله تعالى: (ومَا جعلْنَا القبلةَ التِي كنتَ عليهَا) فالتي كان عليها هي الكعبة، لكن هل كان هذا بأمر من الله أم باجتهاد من الرسول أقره عليه؟ لم يَرِدْ في ذلك نصٌّ واضح صريح. وقيل إنه باجتهاد على ما سبق بيانه من اقتفائه أثر أبيه إبراهيم، وتقديسه للبيت الذي يقدِّسه كل العرب ولتحرِّي النظر إليه في خلوته بغار حِراء.
وأما استقبال بيت المقدس في مكة، فقيل بِوحي، على ما تفيده رواية الطبراني عن ابن جُريج أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى أولاً بمكة إلى القبلة، ثم صرفه الله إلى بيت المقدس. وقيل إنه باجتهاد كما قال القاضي عياض: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسُنَّة لا بقرآن. وحكى الوجهين الماوردي في "الحاوي".
5 ـ والصلاة التي صلَّاها الرسول عند مَقْدِمَهُ إلى المدينة متوجِّها إلى بيت المقدس، هل كانت بِوحي أم باجتهاد؟
ذلك راجع إلى الكلام في استقبال بيت المقدس بمكة، فهو مستصحب للقبلة في مَهْجَرِه.
أ ـ الراجح أنه كان بوحي لما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس، قال: لمَّا هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة واليهود أكثرهم يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم، مع أنه كان لأمر ربه، فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم. وروى الطبري أيضًا عن ابن عباس قال: إنما أحب النبي أن يتحوَّل إلى الكعبة، فكان يدعو ربه (كما نصح بذلك جبريل عندما قال له: وددت أن الله صَرَفَ وجهي عن قبلة يهود، فقال له جبريل: إنما أنا عبد، فادعُ ربَّك وسَلْهُ) وكان ينظر إلى السماء فنزلت (قدْ نَرَى تقلُّب وجهِكَ في السماءِ فلنوَلينَّكَ قِبلةً ترضَاهَا فَوَلِّ وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ وحيثُما كنتم فولُّوا وجوهَكُم شَطْرَهُ) (سورة البقرة: 144)، وهذا ما عليه الجمهور كما قال القرطبي، ولحديث البراء بن عازب عند البخاري في كتاب الإيمان: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعْجِبُهُ أن تكون قبلته قِبَل البيت. فاستقباله للبيت المقدس مع شوقه لقبلة إبراهيم دليل على أنه أمر من الله.
ب ـ وقيل إن استقباله لبيت المقدس بالمدينة كان باجتهاد منه، كما قال الحسن البصري، وكما قال الطبري: كان محمد( صلى الله عليه وسلم ) مُخيَّرًا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعًا في إيمان اليهود. لكن يرده سؤاله لجبريل، إذ لو كان مُخيَّرًا لاختار الكعبة دون حاجة إلى سؤال جبريل أن يصرف إليها.
6 ـ كم من الزمن صلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة إلى بيت المقدس؟
جاءت الروايات مختلفة في ذلك، وهي كلها ليست من كلام الرسول، بل من كلام الصحابة، فقيل ستة عشر شهرًا، وقيل سبعة عشر، وقد جاء ذلك في روايتين للبخاري ومسلم عن البراء بن عازب على ما سيأتي، وقيل تسعة عشر شهرا، وقيل بضعة عشر بدون تحديد لمقدار البضع، والاختلاف راجع إلى الخلاف في تعيين الشهر الذي حولت فيه القبلة، مقيسًا بشهر الهجرة إلى المدينة، وبحساب جملة من أيام الشهر شهرًا، أو بغير ذلك من الاعتبارات.
7 ـ في أي شهر وفي أي يوم حُوِّلت القبلة؟ هنالك أقوال :
أ ـ قيل إنها حُوِّلت في منتصف شهر رجب من السنة الثانية، وكان ذلك يوم الاثنين، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال الواقدي: وهذا أثبت، قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، وقاله ابن إسحاق.
ب ـ وقيل إن التحويل كان في شهر جمادي الآخرة، كما رواه الزُّهْري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك. قال أبو جعفر النحاس في كتابه "الناسخ والمنسوخ": وهو أَوْلاها بالصواب؛ لأن الذي قال به أَجَلُّ، ولأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدِمَ المدينة في شهر ربيع الأول، فإذا صُرِفَ آخر جمادى الآخرة إلى الكعبة صار ذلك ستة عشر شهرًا كما قال ابن عباس. وأيضًا إذا صلَّى إلى الكعبة في جمادى الآخرة فقد صلَّى إليها فيما بعدها.
جـ ـ وقيل في نصف شعبان وفي يوم الثلاثاء منه. قاله محمد بن حبيب، وجَزَمَ به في الروضة، وقاله الواقدي.
8 ـ ما هي الصلاة التي صلَّاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقبلتين. وما هي أول صلاة كاملة للقبلة الجديدة؟
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزور أم بشر بن معرور بعد موت بشر، فلما حان وقت صلاة الظهر صلَّى بأصحابه ركعتين، ثم أمر بتحويل القبلة، فتحول في ركوع الركعة الثالثة، وسمَّي هذا المسجد مسجد القبلتين؛ لأن التحويل نزل فيه أولاً. وكان في بني سلِمة ـ بكسر اللام في شرح الزرقاني على المواهب، وضبطت في تفسير القرطبي بفتحها ـ وهي أول صلاة صلَّاها، وهو الأثبت كما قال الواقدي. وكانت هذا الصلاة هي الظهر على ما رواه النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى، وكذا عند الطبراني والبزار من حديث أنس. فهذا الحديث يدل على أن مكان التحويل هو مسجد بني سلمة "مسجد القبلتين" وأن الصلاة هي الظهر قال ابن سعد: صلَّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ركعتين من الظهر في مسجده النبوي بالمسلمين.
وقال بعضهم إن الصلاة هي العصر، مستدلين برواية البراء بن عازب في البخاري في كتاب الإيمان: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى أول صلاة صلاها صلاة العصر ـ أي متوجها إلى الكعبة. لكن هذا يدل على أنها صُلِّيت بقبلتين، والأقرب أنها بقبلة واحدة هي الكعبة، وكانت أول صلاة تامَّة بعد التحويل إلى الكعبة، ويبقى ادِّعاء أن صلاة الظهر هي التي أديت بقبلتين باقيًا دون معارض.كانت قبلته في مكة (الكعبة أو بيت المقدس) بوحي من الله أو باجتهاد منه؟