بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فقد مر تحويل القبلة بمراحل كثيرة، وفي كل مرة كان درسا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -وللمسلمين من بعدهم .
وإليك مراحل هذا التحويل والدروس المستفادة منه كما يذكرها فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر :
روى أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "إن اليهود لا يَحْسُدُونَنا على شيء كما يَحْسُدُونَنا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلُّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين".
على عادة اليهود في الأَثَرَة والأنانِيَةِ النَّابعة من العنصرية الجامحة المعروفة فيهم كانوا يحبون أن يكون كلُّ مَجْدٍ لهم، سواء في ذلك المجد الديني والدنيوي، كما جعل الله فيهم الأنبياء وجعلهم ملوكًا. قال تعالى (وإذْ قالَ موسَى لقومِهِ يا قَومِ اذكُروا نعمةَ اللهِ عليكُم إذْ جَعَلَ فيكُم أنبياءَ وجعلَكُم ملُوكًا وآتاكُم ما لم يُؤتِ أحدًا من العالمين) (سورة المائدة: 20)، ولما سمعوا بظهور سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة كانوا يستفتحون به على أهل المدينة، لكنهم أَبَوْا الانضمام إليه؛ لأنه من نسل عمِّهم إسماعيل دون أبيهم إسحاق.
وقد حدَث أن الله سبحانه أمر نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ باستقبال بيت المقدس في الصلاة، وظلَّ على ذلك نحو سنة ونصف السنة بالمدينة، ثم صَرَفَهُ الله عن هذه القبلة إلى استقبال الكعبة، فقال اليهود: اشتاق محمد إلى بلد أبيه بمكة، وهو يريد أن يُرضِي قومه قريشًا ولو ثَبَتَ على قبلتِنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي يأتي آخر الزمان.
وهذا القول منهم يدل على أنهم انتهازيون لا يَجْرُون إلا وراء المصلحة، دون اعتبار للعقائد والقيم، فهم كفروا بالرسول لمجرد أنه حوَّل وَجْهَهُ ـ بأمر ربه ـ إلى البيت الحرام، ناسين أن الأرض كلها لله، وأن الجهات جميعها واحدة بالنسبة لوجود الله واطِّلاعه على عباده والتوجُّه إليه بالطاعة، قال تعالى (وللهِ المشرقُ والمغربُ فأينمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللهِ) (سورة البقرة: 115)، وقال في حقِّهم (سيقولُ السفهاءُ مِنَ الناسِ مَا وَلَّاهُم عَن قبلتِهِمُ التِي كانُوا عليهَا، قُلْ للهِ المَشرِقُ والمغرِبُ يَهدِي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ) (سورة البقرة: 142).
وندَّد الله بهم في كفرهم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الرغم من الأخبار المُبشِّرة به فقال: (وإنَّ الذينَ أُوتُوا الكتابَ لَيَعلمُون أنَّهُ الحقُّ مِن ربِّهِم) (سورة البقرة: 144)، وقد أَيْأَسَهُ الله من إيمانهم به ما دامتْ قبلته للصلاة غير قبلتهم فقال (ولَئِنْ أَتَيْتَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ بِكلِّ آيةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ومَا أنتَ بتابعٍ قِبْلَتَهُم، ومَا بعضُهُم بتابعٍ قِبْلَةَ بعضٍ) (سورة البقرة: 145) ومن هنا انقطع أملُهم في ضمِّ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فجاهَرُوه بالعداوة، وكانت له معهم الْتحامات وقصص مذكورة في كتب التاريخ.
إن بيت المقدس لم يتخذْه بنو إسرائيل قِبلةً تبعًا لوحي من الله، بل باختيار منهم على ما يذكره المحقِّقون. والحديث المذكور يدل على أن الصخرة التي يستقبلونها لم يؤمروا بها من الله بعينها، فإن القبلة الحقيقية هي أول بيت وضع للناس في مكة، روى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود في التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلمَّا غضب الله على بني إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.
وفي البغوي عند تفسير قوله تعالى (واجْعَلُوا بُيُوتَكُم قِبْلَةً) (سورة يونس : 87) روى ابن جُريج عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومَن معه وبه قطع الزمخشري والبيضاوي، قال النَّسفي في تفسير هذه الآية: اجعلوا بيوتكم مساجد متوجِّهة إلى القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومَن معه يُصلُّون إلى الكعبة.
وكما ضلُّوا عن القبلة ضلُّوا عن الجمعة؛ لأن الله فَرَضَ عليهم يومًا من الأسبوع وَكَلَهُ إلى اختيارهم، فاختلفوا ولم يهتدوا إلى الجمعة. قال الطبري عن مجاهد في قوله تعالى (إنَّما جُعِلَ السبتُ علَى الذينَ اختلفُوا فيهِ) (سورة النحل : 124) قال: أرادوا الجمعة فأخطأوا وأخذوا السبت مكانه. وروى ابن أبي حاتم عن السُّدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فقال: إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يَخلُق يوم السبت شيئًا فاجعله لنا، فجعله عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله: (وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ) (سورة البقرة : 58) فغيَّروا وبدلوا.[/size][/b]