</A>..</A>فقد كان أسامة بن زيد رضي الله عنهما مشاركاً في غزوة المريسيع في السنة الخامسة من الهجرة، وهي الغزوة التي شهدت الحادث المؤسف الأليم: حادث الإفك، وطعن الطاعنون في السيدة الشريفة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها،ولم ينزل الوحي مباشرة، وإنما تأخر شهراً كاملاً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف صعب، ولا يدري حقيقة ما يفعل.. لقد ركبته الحيرة من الكلمات التي تشاع هنا وهناك، وتعقد الموقف تماماً، وأراد الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بركة الشورى، فقرر أن يستشير بعض أصحابه في الذي يجب أن يفعله في هذا المأزق الخطير.. فمن استشار؟! تخيلوا أنه أرسل إلى اثنين فقط من أصحابه ليستشيرهم في هذا الموقف المعقد، فكان أحدهما هو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والثاني هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
لقد كان أسامة بن زيد رضي الله عنهما في ذلك الوقت في الثانية عشرة فقط من عمره!…
قد يظن ظان أن عقل هذا الشاب الصغير جداً قد لا يستوعب أصلاً القصة، ولا يفهم أبعادها أو خلفياتها، فضلاً على أن يدلي برأي فيها.. ولكن سبحان الله.. لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمكانيات أسامة بن زيد رضي الله عنهما العقلية ما يؤهله للاستشارة في هذا الأمر الجلل، ومن الذي يستشير؟! إنه سيد الخلق، وأحكم البشر، والمعصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
هذه- والله - من أعظم مناقب أسامة بن زيد رضي الله عنهما.. بل هي من أعظم مناقب الشباب بصفة عامة.. فوصول شاب إلى هذه الدرجة الراقية من العقل والفكر يفتح آفاقاً هائلة للشباب ليحسنوا استغلال طاقاتهم المدفونة في أعماقهم، وييسر لهم استيعاب القدرات المهولة التي زرعها فيهم رب العالمين جلت عظمته وقدرته..
ثم كان القرار العجيب الذي أمتعنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وهو تولية هذا الشاب الصغير أسامة بن زيد رضي الله عنهما - وكان يبلغ آنذاك بالكاد ثمانية عشر عاماً- على قيادة الجيش الإسلامي الضخم المتجه إلى حرب الرومان في الشام..
والقرار عجيب فعلاً، ويحتاج إلى وقفة طويلة، وتدبر عميق..
فأسامة بن زيد رضي الله عنهما لا يرأس في هذا الجيش مجموعة من الغلمان والصبيان، أو مجموعة من البسطاء الذين ليس لهم في أمور القتال، وإنما يرأس مجموعة من أعظم العمالقة.. وهم عمالقة في كل شيء.. عمالقة في الفروسية، وفي التخطيط العسكري، وفي الإيمان، وفي السبق إلى الإسلام، وفي الخبرة، وفي الصحبة، وفي المكانة..
لابد أن نقف وقفة ونتساءل..
ألم يكن في المدينة المنورة من هو أفضل من أسامة بن زيد رضي الله عنهما لقيادة الجيش؟!
والإجابة واضحة.. فإنه- ولا شك- كان في المدينة رجال كثير على مستوى أعلى وأفضل من أسامة.. كان هناك الكثير من القادة العسكريين أمثال أبي عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام وخالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو وشرحبيل بن حسنة والمثنى بن حارثة وعمرو بن العاص وغيرهم وغيرهم..
فلماذا يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما فوق كل هؤلاء؟. ولماذا يصر على ولايته رغم تردد بعض الصحابة في قبول فكرة ولاية هذا الشاب الحدث على هذا الجيش الخطير؟!
إن الإشارة واضحة، والهدف جلي..
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يوضح لنا إمكانيات الشباب وطاقاتهم.. فها هو الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة يستطيع بجدارة أن يقود هذا الجيش الهائل بمن فيه من القادة والزعماء والأبطال..
والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسخ فينا أسلوب التوريث للخبرة، والتدريب للجيل الناشئ.. ولو ظل القائد الكبير قائداً طيلة حياته دون أن يسمح بظهور الطاقات الصغيرة إلى جواره فإنها هذا يقود الأمة- لا شك- إلى الهلكة والاضمحلال.. لكن تربية الشباب على القيادة والريادة والإدارة منذ صغر سنه يعطي الأمة أعماراً فوق عمرها.. ويرسخ أقدامها بين غيرها من الأمم.. إنها ليست حاضراً فقط.. بل هي المستقبل أيضاً..
ولابد أن نأخذ في الاعتبار في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي الذي يرأسه أسامة بن زيد رضي الله عنهما لا يخرج في مهمة استطلاعية، أو مهمة تدربية، أو مهمة بسيطة أمر النصر فيها محسوم.. إن هذا الجيش يذهب ليقابل أعتي جيوش الأرض في ذلك الزمان.. إنه جيش الإمبراطورية الرومانية العظمى .. الجيش صاحب التاريخ الطويل، والانتصارات المجيدة.. ولابد أن نلحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ولى أسامة بن زيد رضي الله عنهما لم يكن- بأي حال من الأحوال- يلقي بجيش المسلمين إلى التهلكة، إنما كان يعلم تمام العلم أن هذا الشاب يستطيع بكفاءة أن يقوم بهذه المهمة الخطيرة، وأصر على ولايته حتى بعد أن أبدى بعض الصحابة اعتراضهم واستغرابهم لولاية هذا الشاب الصغير على هذا الجيش الخطير.. وهذا الإصرار ليزرع المعنى في قلوبنا بوضوح.. وهو المعنى الذي يخفى على عقول كثير من الآباء والمربين والدعاة.. وهو أن إمكانيات الشباب هائلة..
هذا الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي لم يبلغ ثمانية عشر عاماً كان قد استكمل في سنوات عمره المعدودة فنون الفروسية والقتال والقيادة والإدارة والفقه والعلم، بحيث أصبح قادراً على أداء هذه المهمة الخطيرة..
مع العلم يا شباب الأمة أن هذا الشاب العظيم لم يكن يتمتع بما يحلم به كثير من شباب اليوم من وضع اجتماعي معين، أو شكل وسيم، أو لباس فخم أنيق..
لقد كان هذا الشاب رجلاً بسيطاً جداً، وهو ابن لرجل بسيط كذلك، هو زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه ممن يباع ويشترى، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فأسامة رضي الله عنه كان من عائلة فقيرة بسيطة، ولم يكن ابناً لغني من الأغنياء أو وزير أو أمير.. كما أن أسامة رضي الله عنه لم يكن شاباً وسيماً جميلاً.. بل على العكس تماماً.. إنه لم يكن حسن الصورة ولا جميل الوجه.. وهذا ليثبت للشباب في كل الأمة أن المقومات الحقيقية لنجاح الشاب تكمن أساساً في دين الشاب وفي عقله وعلمه وكفاءته وتدريبه، ولا تكمن أبداً في عرق أو عنصر أو نسب أو مال أو جمال صورة..
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه كلمة هي فخر لكل الشباب المسلم، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْ تَطْعُنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ
ألا ما أعظم الشباب إذا فقهوا دورهم..
وألا ما أعظم الأمة إن أخذ الشباب فيها وضعهم الحقيقي، ومكانتهم التي تتناسب مع طاقاتهم وقدراتهم..
ولنا في أسامة عبرة..
ووددت لو ذكرت لكم تفصيلاً عن الشباب في دولة الإسلام.. ولكن هذا حديث يطول جداً.. وليس من غرض هذه الرسالة الحصر والاستقصاء.. ولكن فقط ضرب الأمثلة.. وراجعوا إن أردتم سير الشباب العظماء في أمة الإسلام أمثال مصعب بن عمير وسمرة بن جندب وجعفر بن أبي طالب وأسعد بن زرارة ومعاذ بن جبل وسعد بن معاذ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وغيرهم وغيرهم وغيرهم.. رضي الله عنهم جميعاً، وأكثر الله من أمثالهم..
</A>