كما لا يَشُك إنسان فى أن علوم الطب ـ مع كَثرتها ـ
تَستهدف صيانة البدن الإنسـانى .. فكذلك العلوم المُشتقة من النبع الأَصْفَى ـ
الكتاب و السُّنة ـ تَلتقى جميعاً عند تكوين الإيمان و مَطالبه ، فلابد أن يكون من
بين هذه العلوم علمٌ يَقوم على رفع الإنسان إلى مَقام الإحسان.. علمٌ يُعالج
العِلَل العقلية و النفسية التى تَحْجِب المرءَ عن ربه و تُلصقُه بالتراب .
و ليس مُهماً أن يُسمَّى هذا العلم : التَّصوْف
أو غَيره .. فَلْنَتخِذ له ما نَستَحبُّ من عناوين .. فالأمرُ سَوَاء .
إنَّ شرَّ ما يُصيب المُتدينين هو تَحول الطاعاتِ إلى
عاداتٍ تُؤدَّىَ فى غَيبةِ العقل و غَفلةِ الشعور و المراسيم الدينية .. و الحالة
هذه ؛ مَعطوبة الثمار .. و رُبَّما بَقيت و بَقِىَ إلى جوارها طبعٌ لم يُهَذَّبْ ،
و خُلقٌ لم يُقَوَّم .. فما الذى يُوقظ القلب الغافى و يُعيد إليه حرارة الحياة و
نشاطها ؟؟
إنَّ تَعَهُد النَّاشئةِ و الكبار بما يُوجِّهُ
عواطفهم و آمالَهم إلى الله ـ جلَّ جلاله ـ شىءٌ خَطيرٌ .. و لابد من إقامة ذلك على
علمٍ أو مَعارف تُقامُ على أُسسٍ فنيةٍ مُحترمة .
إنَّ الناس فى عَصرنا هذا فَتَنتْهُم الحياةُ العاجلة
، و تَعلقوا بها تَعلُّقاً سَدَّ عليهم منافذ النَظرِ إلى كُلِّ شىءٍ آخرَ أسْمَى و
أخْلد .
و ليس هذا ما يُدهش .. فإنَّ الله أخبرنا فى كتابه
أنه هكذا خَلَقَ الإنسان .. و أنَّ امتحانَهُ لإحراز الكمال أساسهُ تَهذيب هذه
الطبيعة و امتلاك زِمامها .. لا الإستسلامُ لها و الإنقياد لأهوائها .. (( زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسآءِ و البَنِينَ و القَناطِيرِ
المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ و الفِضَّةِ و الخَيْلِ المُسَوَّمَةِ و الأنْعامِ و
الحَرْثِ ، ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيَا و اللهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ *
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأنْهارُ خَالِدِينَ فِيهَا و أزْوَاجٌ
مُّطَهَّرَةٌ و رِضْوانٌ مِّنَ اللهِ ، و اللهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ ))
{ 14،15 آل عمران }
و لكن الذى يُرَوِّعُ فى عالم اليوم ، أنَّ العقل
البشرى تَقدَّمَ تَقدُّماً ساحراً فى الميدان العلمى و الصناعى .. تقدُّماً اثارَ
فى الإنسان الزَّهوَ و الغرور .
و فى الوقت الذى طَفرَ فيه العقل ، و طَوَى
المَراحِلَ الشَّاسعة .. بَقِيَتْ الخصائص الإنسانية الأُخرى جامدة كما كانت فى
بَدءِ الخَليقة ؛ فالحقدُ القاتلُ فى قلب ابن آدم نَحو أخيه الطَّيِب بَقِىَ كما
هُوَ ، مُشتعلَ الأَثَرَةِ غَبِىَّ الوِجْهَة .
أمَّا الجَهلُ القديمُ بِطريقةِ مُواراةِ الجُثَّةِ
.. فلقد تَحوَّلَ إلى ذَكاءٍ و خِبْرَة !!
و اليوم .. استطاعت البشريةُ أن تُسَخِّرَ أعظمَ
ثَمراتِ الإرتقاءِ العِلمىّ لِبلوغِ أخَسِّ نَزَعاتِها .. ألا لَيْتَ الإنسانَ
ارْتَقى قَلباً و عَقلاً .. و لَيْتَهُ رَنَا بِطَرفهِ إلى السَّماءِ لَمَّا مَلَكَ
قِيادَ الأرض .. إنه بَدلاً من ذلك مَضى فى طريقهِ يَعْتَدُّ بالحياةِ الدُنيا
وَحْدَها .. و يَجْهَلُ و يَجْحَدُ ما وَرَاءَها .. و يَتطاوَلُ على خَالِقِه .. و
يَظُنُّ نَفسَهُ إلاهاً يَخطو على التراب !!
لقد أصبحت الإنسانيةُ بِمُساندةِ العلمِ سَيِّدة
مَصيرها و لكن .. هل سَنُصبحُ قادرينَ على استخدامِ هذه المَعرفةِ لِمَصلحتنا
الحقيقية ؟؟ يجب أن يُعيد الإنسان صِياغةَ نَفسهِ حتى يَستطيع أن يُطَوِّعَ هذا
العلم و هذه المَعرفة لِمَصلحتهِ الحقيقية .. و لكنه لا يستطيع وَحْدَه إلاَّ
بتوفيقٍ مِنَ الله و عَونٍ من لَدُنه .. لا يستطيع إلاَّ بِصُحبةِ الهُداةِ ، و
التماسِ الأُسوَةِ الحَسنة و القُدوةِ الصالحة .. و كيف يستطيع وحده ؟؟ هل يُمكن أن
يكونَ هُوَ الرُّخامُ و النَحَّاتُ معاً ؟؟ أظُنُّ ذلك مُستحيلاً .. كيف يستطيع أن
يَكتشفَ حَقيقتَهُ و هو حَبيسٌ فى ظُلماتِ مادَّتِه ؟؟ و كيف يستطيع أن يكتشفَ
حَقيقته و هو مُحاطٌ بأسبابِ الرَّفاهيةِ و الجَمالِ ، و مُعجزاتِ الميكانيكا التى
أوْجَدَتها التكنولوجيا ؟؟ إنه سَيبقَى عَبدَ نَفسهِ إن لم تُدرِكهُ عنايةُ الله
..
يَقول كاتِب عالمى : (( لا جَرَمَ أنَّ الحديثَ عن
تَقدُّمِ الإنسانِ نَحو الفضاء حديثٌ مُثير .. و لكننا نَعتقد أن تَقدُّم الإنسان و
لو خُطوة واحدة نحو أخيه الإنسان ربما كان أعظم تأثيراً و إثارةً .. ثم أن هناك بعد
كل هذا جانباً مُظلماً آخر .. ذلك الجانب الخَفىُّ مِنْ روح الإنسانِ الذى لم
نَكَدْ نَبدأ فى اكتشاف مَجاهله !! و إنه لَمِمَّا يَبعثُ على الأسى و الأسف مَعاً
أن نُقْدِمَ على غَزو الجانب المُضىء من القمر بهذا الجانب المُظلم من أنفسنا
..
الحقُّ أنه يَجدُر بنا أن نُطَهِّر أنفسنا و أيدينا و
أن نسأل الله المَغفرة ، و نحنُ نُعِدُّ العُدَّةَ لِغَزوِ وَجهِ القمر الناصع ))
.
هذه الكلمات البَصيرة تُنادينا نحنُ المُتديِّنينَ
لأداءِ الرسالةِ الإلهية التى وَرثناها فى كلماتِ الله و حكمةِ المُرسلين .
و الدين الذى تَهفُو إليه الإنسانية ليس جُملة مَعارف
يُصدِّقُها العقل بعد أن يَستبين صِحَّتها فقط .. إنه إلى جانب ذلك إحساسٌ بالوجودِ
الإلهى الذى يُروِى ظَمأَ الرُّوح إلى الرِّضا و التَّسامى ..
إن حقيقة الدين سعادةٌ بالآخرةِ تَفوقُ السعادة التى
يَستشعرُها البعضُ عند الحصول على ثَروةٍ طائلةٍ أو مَنصبٍ كبير .. إنَّهُ أُنسٌ
باللهِ فى الصَّلاةِ الخاشعةِ و الصِّيامِ العَفيف ..
اللَهُمَّ إنَّا نَسألُكَ البَصيرةَ فى دِيننا.. و
النورَ فى جَوارحنا.. والعافيةَ فى أنفسنا.. والسّعَةَ فى أرزاقِنا و السَّترَ فى
آثارِنا.. و الشُّكرَ ما أحييْتنا.. يا الله .. يا أرحم الراحمين .. والحمد لله رب
العالمين