و أما التوسل إلى الله تعالى بجاه أنبيائه عليهم الصلاة و السلام و أوليائه
الصالحين فليس شِركاً و لا حراماً ، و لا هو بدعةٌ مُستحدثة فى الدين كما يدَّعيه
المخالفون ، و إنما هو محبوب و مندوب إليه شرعاً ، كما سيأتى توضيحه بعون الله
تعالى ، و ما مُخالفة المُخالفين فيه ، و تنوع مقالاتهم حوله ، كتصريحهم تارةً
بِحُرمتِه ، و تكفير فاعله مطلقاً سواء كان المُتوسَل به نبياً أو ولياً حياً أو
ميتاً ، و كقولهم تارةً أخرى بجوازه فى النبى و منعه فى الولى ، أو بجوازه فى
الأحياء دون الأموات إلا من أظهر الأدلة على حيرة عقولهم و فساد تفكيرهم .
و إلا فما وجه هذه التفرقة بين الولى و النبى ، و الحىّ و الميت هنا ،
ما دُمنا نعتقد أن الفعل لله وحده من غير شريك ؟ و أنه عزَّ و جل المُتصرف فى الكون
بالمنع و الإعطاء ؟ و ما الخلق من ملائكة و أنبياء و أولياء و غيرهم إلا وسائط و
أسباب فقط يُجرى الله تعالى الخير و ضِده على أيديهم ، من غير أن يكون لهم فى ذلك
إيجاد و لا تأثير كما أشار إليه رسول الله ( ص ) بقوله : ( إن هذا الخير ـ أى و
الشر بدليل عجز الحديث فهو من باب الاكتفاء ـ عند الله خزائن ، لتلك الخزائن مفاتيح
، فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر و ويلٌ لعبدٍ جعله الله تعالى
مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير ) . و هل كان يتصور أحد أن الحى هو الذى كان يجلب الخير
أو يدفع الضر بذاته للمتوسل به حتى إذا مات لم يمكنه ذلك فيكون التوسل به عبثاً
قبيحاً أو شركاً صريحاً ؟ كلا و الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً
على أن نعتقد أن الأنبياء و الأولياء أحياءً فى قبورهم ، و أن منزلتهم عند الله
تعالى لم يطرأ عليها تغيير و لا تبديل ، بل هم بعد الموت أشد قُرباً من الله تعالى
و أرفع مكانةً عنده ، وقد قالوا : " الولى كالسيف فى غمده فإذا مات سلّ " و ذلك لأن
روحه فى الدنيا كانت مشغولة نوعاً ما بتدبير البدن و عوائق البشرية ، فإذا مات زالت
عنه هذه العوائق بالكُلية ، و بقيت روحه خالصة فى توجهها إلى الحق ، و اقتباسها من
أنواره القدسية ، فيقوى بذلك نورها و سلطانها ، و تزداد أشعة أنوارها المُنعكسة على
من يلوذُ بها من ذوى الحاجات و أرباب الإرادات . و قد أخبرنا ( ص ) أن حياته و
وفاته سواء فى انتفاعنا بشفاعته ، و عود بركاته علينا ، حيث قال فى الحديث الصحيح
:
( حياتى خيرٌ لكم ، تحدثون و يحدث لكم ، فإذا متُّ كانت وفاتى خيراً لكم
تُعرض على أعمالكم ، فإذا وجدت خيراً حمدت الله ، و إن وجدت شراً إستغفرت لكم ) ..
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت به نبياً عن أمته.
أدلة التوسُّل : ـ
و قد دلَّ على مشروعية التوسل الكتاب و السنة القولية و الفعلية ، و
عمل السلف الصالح من الصحابة و التابعين إلى وقتنا هذا ، و قال الله تعالى : (( و
ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون )) ..
فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن إكرام الأمة و رفع العذاب عنها كما يكون
بسبب استغفارهم لأنفسهم يكون بسببه ( ص ) .
و قال تعالى : (( و لو أنهم إذ ظلمُوا أنفسهُم جاءوكَ فاستغفروا الله و
استغفر لهم الرسول لوجدُوا الله تواباً رحيماً )) .. و لو لم يكن التوسل صحيحاً لما
كان هناك فائدة لقوله : (( جاءوك )) و قوله (( و استغفر لهم الرسول )) . و قد أفاد
الحديث الذى مرَّ ذكره أن هذا الإستغفار منه ( ص ) لنا واقع فى حال حياته و بعد
وفاته .
و قد أرشد رسول الله ( ص ) إلى التوسل ، و وقع منه و من صحابته و
تابعيهم به ( ص ) و بغيره من الأخيار ، فقد صحَّ عنه أنه ( ص ) دعا لفاطمة بنت أسد
أم سيدنا على ابن أبى طالب ( ع ) ، كما أخرجه الطبرانى فى الكبير و الأوسط و ابن
حبان و الحاكم بسند صحيح و قال فى دعائه :
(( اللهم اغفر لأمى فاطمة بنت أسد ، و وَسِّع لها مدخلها بحق نبيك و
الأنبياء الذين من قبلى ، فإنك أرحم الراحمين )) ..
[b][b]و أخرج الترمذى و صَححهُ النسائى و البيهقى و الطبرانى بأسانيد صحيحة عن
عثمان ابن حنيف : أن رجلاً أعمى جاء إلى النبى ( ص) و هم جلوس معه ، فشكا إليه ذهاب
بصره ، فأمره بالصبر فقال : ليس لى قائد ، و قد شقَّ علىّ فقدُ بصرى ، فقال له ( ص
) : ( ائت الميضأة فتوضأ ، ثم صل ركعتين ، ثم قل : اللهم إنى أتوجهُ إليك بمحمد نبى
الرحمة ، يا محمد إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى لتُقضى إلىّ فشفعه فى ) . قال
عثمان ابن جنيف : فوالله ما تفرق بنا المجلس حتى دخل علينا بصيراً ، كأنه لم يكن به
ضُرٌ .. و توسل الصحابة به فى الإستسقاء و غيره و ذلك ثابت فى الصحيحين .[/b][/b]
[b][b]و توسل عمر ابن الخطاب بالعباس ابن عبد المطلب ( رض ) عم رسول الله ( ص
) ، ففيه عن أنس أن عمرو ابن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب ،
و قال : اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك فتسقينا ، و إنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا
فيُسقون .و هذا مذكور فى صحيح البخارى .[/b][/b]
[b][b]و روى الطبرانى و البيهقى و الترمذى بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلا
كان يختلف إلى عثمان ابن عفان زمن خلافته فى حاجة له ، فكان لا يلتفت إليه ، فرجا
عثمان ابن حنيف أن يكلمه فى شأنه فعلمه الدعاء السابق و هو : اللهم إنى أتوجه إليك
بنبيك إلخ . فتوضأ و صلى ثم دعا به كما علمه ، ثم جاء إلى باب عثمان بن عفان فأخذه
الخادم و أدخله عليه ، فأجلسه بجانبه على الطنفسة ، ثم قضى حاجته ، و قال له إذا
عرضت لك حاجة فأتنا . فلما قابل الرجل عثمان بن حنيف قال له : جزاك الله خيراً ، ما
كان ينظر فى حاجتى حتى كلمته فيها . فقال له : و الله ما كلمته ، و لكنى كنت مع
رسول الله ( ص ) فدخل عليه أعمى ، و ذكر الحديث المار . و قصة الإمام مالك مع
المنصور التى قال له فيها حين سأله : أأستقبل مرقد النبى ( ص ) و أدعوا أم
أستقبل القِبلة و أدعوا ؟ .. قال : و لِمَ تصرف وجهك عنه و هو وسيلتك و وسيلة أبيك
آدم عليه السلام ؟[/b][/b]
[b][b]و قال الإمام الشافعى ( رض ) فى مرقد الإمام " موسى الكاظم " ( ع) إنه
الترياق المُجرب .. إلخ مما يطول استقصاؤه . و فيما ذكرناه كفاية للمُنصف .[/b][/b]
[b][b][b]التوسل أحد الأسباب العادية :[/b][/b][/b]
[b][b]و لا يخرج التوسل فى الحقيقة عن كونه سبباً من الأسباب العادية التى
نصبها الله تعالى مقتضياتٍ لمُسبباتها ، و جعل بينهما مقارنة فى الوجود مع كون
التأثير له وحده جلَّ و علا ، فيكون حُكمهُ حُكْم بقية الأسباب العادية التى يضمر
فيها الإفراط و المُغالاة كما يقع من بعض الجُهال ، و التفريط كما يقع من أهل
القسوة و الجفاء المنكرين لخواص أولياء الله تعالى الثابتة ، و كرامتهم الواقعة
بالمُشاهدة و العيان .[/b][/b]
[b][b]إذْ ليس من المستحيل ، بل و لا من البعيد أن يعلق الله تعالى قضاء حاجة
من الحوائج ، كشفاء من مرض ، أو سعة فى رزق ، على التوسل بأحد عباده الصالحين ، و
فى هذه الحالة لا يمكن أن يحصل المطلوب من الشفاء و غيره من غير طريق التوسل بحال .
لا لأن التوسل مؤثر بذاته ، و لا لأن الولى أو النبى هو الذى خلق الشفاء و أوجده ،
بل لما سبق فى علمه تعالى القديم من تعليق هذا الشفاء على التوسل المذكور .[/b][/b]
[b][b][b]فائدة التوسل ثابتةٌ بالنص ، واقِعةٌ فى الحِس
:[/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]و أما منفعة التوسل فهى ثابتة بالنص واقعةٌ فى الحِس ، لما سبق فى
الأحاديث المارة من قول أنس فى قصة استسقاء عُمر بالعباس بن عبد المطلب : فيسقَون
.[/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]و من قول عثمان بن حنيف فى حديث الضرير الذى توسل بالنبى ( ص ) ، فو
الله ما تفرقنا حتى دخل علينا بصيراً كأنه لم يكن به ضُر. إلى غير ذلك مما يحول
بيننا و بين سردِه خشيةَ الإطالة .[/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b][b]مجالس الذكر و فضلها :[/b][/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]و أما ذكر الله تعالى و فضله و أثره فى جلاء القلوب و شفاء أمراضها و
تمزيق حُجُب الغفلة عنها ، و الحث عليها ، و على ملازمة مجالسه فى كتاب الله تعالى
و فى السنة النبوية فلا ينكره إلا جهولٌ غبى أو محرومٌ شقى . قال الله تعالى : (( و
لذكْرُ الله أكبر )) .. و قال : (( فاذكرونى أذكركم )) ، و قال : (( و اصبر نفسك
مع الذين يدعون ربهم بالغَداةِ و العَشى يُريدونَ وجههُ و لا تَعدُ عيناك عنهم ))
.. و روى الترمذى عن أبى الدرداء ( رض ) قال : قال رسول الله ( ص ) ( ألا أنبئكم
بخير أعمالكم ، و أزكاها عند مليكِكم ، و أرفعها فى درجاتكم ، و خيرٌ لكم من إنفاق
الذهب و الفضة ، و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتَضربوا أعناقهم ؟ قالوا : بلى . قال
: ذكر الله تعالى ). و روى مسلم عن أبى هريرة و أبى سعيد قالا : قال رسول الله (
ص) ( لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا حفّتهم الملائكة ، و غشيتهم الرحمة ، و نزلت
عليهم السكينة ، و ذكرهم الله فيمن عنده ) .. و روى أبو نعيم أنه ( ص ) قال : (
مجالس الذكر تنزل عليهم السكينة و تحفهم الملائكة و يذكرهم الله ) .[/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b][b]مجالس دلائل الخيرات :[/b][/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]و يلتحق بمجالس الذكر المتقدمة المجالس التى تُتْلى فيها دلائل الخيرات
المنسوبة لسيدى محمد الجزولى ( رض ) لأن الصلاة على النبى ( ص ) داخلة فى عُموم
الذكر قطعاً ، و ليس على الإنسان أن يلتزم صيغة مخصوصة يصلى بها على النبى ( ص ) و
ما وضعه العارفون من الصّيغ له ميزةً على غير الوارد فى السنة . و قد جاء فى الحثِّ
على الصلاة على النبى و فضلها نصوص كثيرة .. قال الله تعالى : (( يا أيها الذين
آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما )) .. و عن أوس بن أوس ( رض ) قال : قال رسول الله
( ص ) : ( إن من أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا من الصلاة علىّ فيه ، فإن صلاتكم
معروضة على ) . قالوا : يا رسول الله ، و كيف تعرض صلاتنا عليك و قد أرمت ؟ ـ أى
بُليت ـ فقال ( ص ) : ( إن الله حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء ) . رواه أبو داود
بإسناد صحيح . و روى الترمذى و حسنهُ من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله ( ص )
: ( ما قعد قوم مقعداً لم يذكروا الله سبحانه و تعالى فيه ، و لم يصلوا على النبى (
ص ) ، إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة ) . و غير خافٍ أن هذا الفضل كله إنما هو
بالنسبة لمجالس الذكر الشرعى كما هو موضوع سؤال السائل ، المضبوطة بضابط الشريعة
الغراء ، و المراعى فيها جانب الأدب مع الله تعالى ، و الخالية مما أحدثه الجُهّال
و أدعياء الطريق اليوم من الخلاعة و المُجون ، و الإسراف فى إيقاد الشموع و نحوها ،
و من التحريف لأسماء الله تعالى ، و غير ذلك مما لا تُقره الشريعة ، و إلا فذكر
الذاكر بهذه الكيفية الشنيعة مزيد و بالٍ عليه . و لذلك لما فشت هذه العادات
الممقوتة بين أكثر الذاكرين اليوم انطمست من بينهم علامات القبول و أوشكت أن تأفل
شمس الوصول :[/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]خليلى : قطاعُ الفيافى إلى العُلا كثيرٌ و لكن الوصول قليل[/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]و جوهٌ عليهـا للقبولِ علامـةً و ليس على كل الوجوه قُبول[/b][/b][/b][/b][/b]
[b][b][b][b][b]و من هنا فَهِمَ كثير من الناس خطأ أن الطريقة عدوة العلم ، و أنها شئٌ
و الشريعة شئٌ آخر ، حتى ساد سوء الظن بالجميع من غير تفرقة بين مُبطلٍ و مُحِق ، و
أصبحنا معشر أهل الطريق مُضغةً فى الأفواه و سخرية بين الخلق . فإنا لله و إنا إليه
راجعون .
[/b][/b][/b][/b][/b][b][b][b][/b][/b][/b]